بداية أقول، إن الحب تعبير عن إنسانية الإنسان، وترجمة وبلورة لمشاعره وأحاسيسه، وإعلان عن فطرته الاجتماعية، وإفصاح عن مكنوناته النفسية، والإنسان في ذلك يكشف عن حقيقته التي تميزه عمن سواه من مخلوقات، فالإنسان ليس مَلَكَاً لا غريزة فيه ولا شهوة، ولا حيواناً تحركه الغريزة أنى شاءت بلا عقل، إنما هو خَلق يجمع بين غريزة جامحة، و بين عقل وإرادة يحكمان التعبير عنها في حدود افعل ولا تفعل، أي في حدود الأمر والنهى. والحب بهذا المفهوم يعد من أسمى وأرقى المشاعر الإنسانية، بل هو تجربة يثبت الإنسان بممارستها وجوده في الحياة، حيث تنتشله من جحيم وحدته ووحشته، وتنقله إلى جنة الأنس مع من يحب، حتى يشعر في رحابها وكأنه قد انتقل من حياة إلى حياة ومن عالم إلى عالم، ولذا كان الحب الحقيقي ثورة على النمطية التي تُغلف حياة البشر، وكسراً لحدة الملل الذي يصيبهم إثر رؤيتهم لنفس الأشياء وأدائهم لذات الأعمال، ومن ثم تجديداً لحياة قلوبهم، والذي تتغير بحياتها نظرة العين، وكلمة اللسان.. بل والنظرة إلى الحياة ككل. إن نظرة المجتمع إلى قضية الحب تحتاج إلى شيء من الإنصاف والاعتدال لوضعها في أطرها الصحيحة، بدلاً من المصادرة المجحفة، أو الإباحة المطلقة، لأنها تمثل حقاً طبيعياً لا يجب الحرمان منه، تارة باسم العادات الاجتماعية المتوارثة، وتارة باسم القيم الدينية، كما لا يجب أن تُمنح حرية بلا حدود أو قيود إزاء ممارسته، فتتحول الحياة إلى مسرح مفتوح تمارس فيه الرذيلة بلا خوف أو حياء، ولذا فإن المعالجة العاقلة لتلك المسألة تستلزم رؤية متزنة وعاقلة تعترف اعترافاً واضحاً بحق البشر في الحب كتعبير راق عن إنسانيتهم، مع وضع الضوابط الدينية والاجتماعية والثقافية لتكون حدوداً ملزمة عند ممارسة هذا الحق على أرض الواقع. لقد هرع كثير من الشباب إلى ممارسة الحب المزيف عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة، وأبزرها تكنولوجيا الهاتف المحمول، وتكنولوجيا الانترنت، الأمر الذي أغرق هؤلاء الشباب في بحور من المشاعر المغشوشة من خلال محادثات تقوم على الكذب والغش والخداع ليَحْصل من ورائها على ضالته المنشودة وحقه الضائع في الحب، والسبب هو أن المجتمع قد أوصد كثيراً من الأبواب في وجه هذا الحق كي يعبر عن نفسه تعبيراً يتفق مع الشرع والعرف، إضافة إلى عزوف كثير من المثقفين عن الخوض في مناقشته خوفاً من النقد أو حرجاً من المجتمع، والأمر على النحو المذكور يهدد بكارثة اجتماعية ذات تداعيات خطيرة على المدى القريب والبعيد. إن مناقشة مفتوحة وحواراً هادفاً قد يكون مرحلة مهمة على طريق التأصيل لمفاهيم جديدة تتوافق مع معطيات الحالة الراهنة بكل تداعياتها النفسية والإنسانية، وفى ذات الوقت لا تتعدى الأطر الدينية والثقافية، وذلك من أجل تلبية طموح نفسي وفطري لدى طاقات جبارة من الشباب تعتبر شريك الحياة أولوية ملحة لا يلقى المجتمع لها بالاً رغم خطورتها وأهميتها، الأمر الذي يرسخ قناعة لدى فئة الشباب خاصة بأن استقراره عاطفياً ونفسياً ليس له أي وزن في نظر المجتمع، مما يزج بهم في دوامة البحث عن إشباع هذا الجانب عن طريق اختلاق عالم مزيف من الحب عبر الانترنت أو غيره، أو اللجوء إلى المخالفات الأخلاقية، أو اللجوء إلى الزواج العرفي، وما أكثر حالاته ومشكلاته، ولذا فالأمر يتطلب على عجل تكاتف كافة المؤسسات الثقافية والاجتماعية والدينية لطرح الموضوع بمنتهى الوضوح على طاولة البحث لإنتاج حلول عاجلة قبل فوات الأوان. إن الشباب لهم كامل الحق في التعبير عن مشاعرهم وعواطفهم، ولكن ما هي الطريقة المثلى؟ هذا هو السؤال الذي يحتاج إلى إجابة سريعة وعادلة... ولذا فإني أتصور أن الاستماع المتأمل للشباب في هذا الخصوص - من قبل الأسرة والمؤسسات ذات الصلة - يعد مطلباً هاماً، وخطوة أولى حتى يمكن التعرف على آرائهم ومشكلاتهم، ومن ثم توفير مُدْخلات حقيقية تكون منطلقاً للتوجيه، أو التحذير، أو الحل، لأن مصادرة الحديث من قبل الأسرة والمجتمع وغلق كل المتنفسات المتاحة أكبر خطأ يُرتكب في حق شريحة هي الأهم على الإطلاق في كيان أي مجتمع، بل هي أكبر خطأ يُرتكب في حق المجتمع ككل. عبد القادر مصطفى عبد القادر [email protected]