العين تبكى حين الفرح، أو تبكى حين الحزن، أو تبكى حين الألم، أو تبكى حين الفراق، أو تبكى حين الخوف.. وفى كل الأحوال السابقة يوصف الباكي علانية بالرجل الرقيق، وسراً أو همهمة بالرجل الضعيف، إذ البكاء في عقيدة الكثيرين يمثل فقداناً للسيطرة على النفس، وفشلاً في كبح جماح مشاعرها، فتنساب الدموع تأثراً بالمواقف ذات البعد العاطفي أو الإنساني، وهو الأمر الذي يلقى استنكاراً لدى قطاع عريض من مجتمع الرجال، اعتقاداً منهم بأن البكاء ينال من هيبة الرجل، ويسقط كثيراً من شموخه، ويدحض كثيراً من نقاط تميزه على المرأة في هذا الخصوص. هذا الموقف المتشدد من بكاء الرجل يُنْسَفُ من قواعده في مشهد البكاء بين يدي الله، إجلالاً له، وخشية منه، واستحضاراً لعظمته، إذ يختلف التفسير عند الصغير وعند الكبير، فيصبح البكاء في هذا المقام أمارة على ارتقاء أعلى مراتب الرجولة، وتلبية لنداء الفطرة السليمة، لأن الدموع إن عبرت عن ضعف مطلق أمام قوة الله المطلقة، فهي تعبر وقتئذ عن حقيقة واضحة كفلق الصبح، ومن ثم فهي اعتراف عملي بقدر الله في قلوب عباده، والرجل حين يصنع ذلك بيقين فهو يضع الشيء في موضعه، وبذا فهو يفصح عن صفة لا تُبارح الرجولة الحقيقية، ألا وهى صفة الحكمة، ومَنْ مِنَ الرجال لا يحب أن يكون حكيما؟؟؟!!!. والسؤال الذي يفرض نفسه، لماذا اختلفت النظرة بين بكاء الرجل إزاء المواقف العاطفية والإنسانية، وبين بكاء الرجل بين يدي الله خشية منه، رغم أنها دموع واحدة في الموقفين؟!........ إن لذلك أسباباً أذكر بعضها باختصار شديد:- (1) الله عز وجل ذكر البكائين في كتابه العزيز في أكثر من موضع، وذِكْرُ الله لهذا الصنف من الناس شرف لا يدانيه شرف، قال الله تعالى { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } وقال أيضاً { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } فمن من الرجال لا يطمح إلى ذاك الشرف الرفيع؟!. (2) الرجل يحب أن يُمنح شهادة الرجولة ممن يثق ثقة مطلقة في صدق حكمهم، ونزاهة رأيهم، ويأتي على رأس هؤلاء سيد الخلق وحبيب الحق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، الذي منح المرء صفة \"الرجل\" وهو في حضرة البكاء من ذكر الله، حين قال في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله { ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّه خالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاه} فمن من الرجال لا يتمنى البكاء تأثراً بذكر الله، ليتحقق فيه معنى كلمة \"رجل\"، التي نطق بها لسان من لا ينطق عن الهوى؟!. (3) الرجل لا يقتنع بخُلق إلا إذا مورس من قبل رجال سجل لهم التاريخ بحروف من ذهب أروع مشاهد الرجولة في كافة ميادين الحياة، فإذا كانت تلك الصفوة من الناس تبكى خشية من الله، وخوفاً من الله، فإن البكاء حينئذ يمثل مُرتقاً شامخاً يستهوى فؤاد كل رجل حصيف، فإن كان رسول الله قد بكى.. فلماذا لا يبكى الرجل؟! وإن كان الصحابة الأخيار قد بكوا.. فلماذا لا يبكى الرجل؟! وإن التابعين الأبرار قد بكوا.. فلماذا لا يبكى الرجل؟! لماذا لا يبكى ذلاً وانكساراً بين يدي الله، وقد سبقه إلى ذلك رجالاً لم يعرف التاريخ مثيلاً لهم في الرجولة والشجاعة والإقدام؟!. إن بكاء الرجل أمام ربه يمثل اعترافاً بالعجز أمام القدرة المطلقة، ويمثل اعترافاً بالذل أمام العزة المطلقة، ويمثل اعترافاً بالفقر أمام الغنى المطلق.. الخ، فإن تبوأ العبد تلك المنزلة جعل الله له في قلوب الناس هيبة ووقاراً، وقذف في نفوسهم المحبة له، والثقة فيه، والاطمئنان إلى جواره، وكلها مكاسب اجتماعية يسعى كل رجل مستقيم إلى إحرازها في المجتمع الذي يعيش فيه. إن البكاء من خشية الله كالماء الطهور الذي ينزل على القلب فيرفع عنه أدرانه، وينزع منه أحقاده، ويجعله قلباً ليناً رحيماً يجمع الناس على الحب والخير، قال الله في شأن حبيبه محمد بن عبد الله { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}. فاللهم ارزقنا البكاء بين يديك.. خوفاً ورجاءً.. رهبة ورغبة.. إجلالاً وحباً .. اللهم آمين عبد القادر مصطفى عبد القادر