؟ لم تكن فتوى الشيخ صالح تاريخية في ذاتها. فعلماؤنا كانوا ولا زالوا يرددون على أسماعنا مثل تلك الفتوى، حتى تبلد إحساس كثير منا. ومن علمائنا من استبق الزمن، فاشتغل بما يسمونه /فقه الاستشراف/ فكتب عن /البث المباشر/ وحذر منه، قبل افتتان الناس به بعشر سنوات! ولو سألت عجوزاً، لا يقرأ ولا يكتب، عن ترويج العهر والمجون، أو نشر السحر والتنجيم، لأجابك دون تلكؤ، بأن هذا حرام، وأنه إفساد في الأرض. ولن يستغرق وقتاً في التفكير؛ لأن المسألة كما يقول العامة (ما يبيلها مطوع). ولا جديد في تعامل اللبراليين مع هذه الفتوى، فقد اعتادوا على رصد فتاوي العلماء، وتهويلها، ونشرها في الآفاق، وإيصالها للعدو بأبشع صورة ممكنة. فعشرات الفتاوي، إن لم تكن مئات، مارس اللبراليون معها نفس الأسلوب. وتزامنت مع فتوى الشيخ صالح ثلاث فتواي كان اللبراليون ينددون بها، ويسعون في ترويجها بعد تبشيعها، مع أنها مشتهرة عند العامة، ومستقرة عند أهل العلم، وبعضها محل إجماع! يتسخدم اللبراليون هذا الأسلوب في التعامل مع الفتاوي، خاصة فتاوي كبار العلماء، لثلاثة أهداف رئيسية، يسعون لتحقيقها: أحدها: الوقيعة بين العلماء وولاة الأمر، وإفشال تعاونهم البناء. فإن بلادنا، بحمد الله، تتميز عن غيرها من البلدان، بالتلاحم القوي بين علمائها وأمرائها، وتفاهمهم الدائم في كثير من الشئون العامة، التي فيها صلاح للبلاد والعباد. ولا شك أن هذا يقض مضاجع اللبراليين، ويزيدهم حسرة إلى حسرتهم. الثاني: تشويه صورة العلماء عند الناس، وهز مرجعيتهم الشرعية. فالناس يفزعون عند الملمات إلى العلماء الربانين العارفين، يستفتونهم في شئون دينهم، ويستشيرونهم في شئونهم الاجتماعية والنفسية وغيرها. وهذا يجعل اللبراليين يتميزون من الغيظ. فينبزون عامة المسلمين المستفتين بالحماقة والغباء، متجاهلين نص القرآن الكريم {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}. الثالث: توفير الصورة السيئة عن العلماء (ويطلق عليهم النصارى: رجال الدين) للحكومات والهيئات والجمعيات الغربية، لكي تستخدمها في الضغط على بلادنا، وإجبارها على التنازل عن بعض الشريعة. تحت ذرائع مختلفة، كحقوق الإنسان، أو التجارة العالمية، أو احترام الأديان... وغيرها من الذرائع. ولا جديد في الفتوى من حيث تعزير المفسدين، بما يدفع شرهم، حتى وإن وصل تعزيرهم إلى القتل. مع احترامي لأدعياء الثقافة، ولبعض طلبة العلم، الذين ردوا الفتوى دون بيان الحق الذي جاء فيها. وربهم حسيبهم. فمسألة التعزير بالقتل فيها قولان لأهل العلم، وكثير من المحققين يرجحون القول بجواز القتل تعزيراً، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، وهو ما تعضده الأدلة. فقوله تعالى: {ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق}. ليس دليلاً على منع التعزير بالقتل، لأن التعزير من الحق المستثنى في الآية، إن رأى إمام المسلمين أن المصلحة لا تتحقق إلا به. وأما حديث: /لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث/. فقد وردت أحاديث صحيحة فيها قتل غير هؤلاء الثلاثة، مما يدل على أن المقصود من الحديث ليس الحصر. ومنذ ثلاثين عاماً وبلادنا تقتل مروجي المخدرات تعزيراً، باعتبارهم مفسدين في الأرض، ولا يندفع شرهم إلا بالقتل. وقد صدر بذلك قرار هيئة كبار العلماء عام (1401) هجرية. ولا يزال العمل عليه إلى اليوم. ولا أظن أن هذا الأمر يخفى على الذين اتهموا الشيخ في فتواه. الجديد في الفتوى: أن اللبراليين (مشكورين!) قد أبرزوها بطريقة تحرك الساكن من قلوب المسلمين، وتحيي المتبلد من أحاسيسهم، ليراجعوا أنفسهم، ويعيدوا حساباتهم. خاصة أنها جاءت في شهر رمضان المبارك، شهر التوبة، والرجوع إلى الله. حين اقتحمت القنوات الفضائية حياتنا، وقف أهل الخير في وجهها وقفة صارمة. وكان الناس يتحرجون من مجرد ذكر اسم القناة على ألسنتهم. ومع الزمن، تلاشت الصرامة، وتساهل بعضهم في المسألة، وبحث بعضهم الآخر عن المصالح، وبالغ في التماس المعاذير. وأصبح بعض الصالحين لا يتحرج من ذكر تفاصيل ما يعرض في تلك القنوات، وبعضهم يحيل إليها كما يحيل إلى الكتب! فضعف إنكار الناس لها، وإن لم يختف تماماً، فلايزال من الناس، ولله الحمد، الثابت على مبدئه. ثم توالى خروج المشايخ في تلك القنوات، وتكاثروا على شاشاتها، مما دفع كثير من الناس إلى إعادة النظر في الموضوع، وبدأوا يستسيغونها شيئاً فشيئاً، حتى سمحوا لها بالدخول إلى بيوتهم؛ حباً في المشايخ. يحتجون بذلك! ويحتجون بأنها اشتملت على خير وشر، وأنها مجرد أداة. يكفي أن المشايخ يخرجون فيها بكثرة! هكذا يجيبك من تناقشه. ولا شك أن المشايخ خرجوا فيها باجتهاد شخصي لا يلامون عليه، ولمصلحة ظهرت لهم. ولا يستيطع أحد أن يجزم بأن مصلحة الخروج في تلك القنوات كانت أكبر من المفسدة، أو العكس. ولكن بعد كل هذه السنوات، يظهر أن المفسدة أكبر بكثير، وأن المشايخ روجوا للقنوات وخدموا أصحابها.. هكذا يبدو، والله أعلم بالصواب. إن الناس يستمعون إلى الشيخ ساعة واحدة في اليوم على الأكثر، من أصل ثلاثة عشرة ساعة يقضونها أمام القناة. ويمكن أن يكون ذلك مقبولاً في السابق، قبل أن تنتشر القنوات الإسلامية، أما بعد ذلك، فمن يريد المشايخ يستطيع الوصول إليهم بالضغط على جهاز التحكم (الريموت). فضلاً عن أن غالبية متابعي قنوات الإفساد لا يحرصون على متابعة المشايخ أصلاً، ويعرفون الأوقات التي تأتي فيها برامجهم المفضلة في كل قناة. لقد حركت فتوى الشيخ المياه الراكدة، وأنعشت القلوب الميتة. إن مرحلة ما بعد الفتوى، هي مرحلة الفكرة بعد السكرة. مرحلة التنبه بعد الغفلة. ما يخصنا نحن: هو أن نأخذ على أنفسنا قراراً حازماً، بألا تدخل إلى بيوتنا تلك القنوات، وألا نجلس إليها أبداً، وألا نضع أعيننا على منظر منها، أياً كان. ونصبر على ما أصابنا، ونحمتل ما نلقاه من فتنة، ونتحلى بالحكمة والصبر في إقناع الوالدين والزوجة والأولاد والإخوان. وإيانا أن نجعل فتنة الناس كعذاب الله. إن المشقة والألم حاصلان لكل نفس لا محالة، سواء آمنت أو رغبت عن الإيمان، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء، ثم تكون له العاقبة في الآخرة، ومن رغب عن الإيمان وأتبع نفسه هواها تحصل له اللذة في الدنيا فقط، ثم يصير إلى الألم الدائم في الآخرة. علينا أن نتذكر ذلك جيداً، كلما دعتنا أنفسنا الأمارة بالسوء إلى المشاهدة، أو كثرت المشكلات في بيوتنا بسبب الممانعة {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً}. إيانا أن نتهاون في قرارنا أو نتنازل عن مبدئنا مهما حصل، فإن من تنازل مرة تسلط عليه الذين تنازل لأجلهم، ثم لم يستطع الإنكار عليهم، ولن يهابوه إن فعل. لا يضيق صدرك إن أدت ممانعتك إلى إغضاب والديك، أو رحمك. /اثبت أحد/. واعلم أنه /لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق/. وأن الله قد نهاك عن طاعة الوالدين في المعصية، مع بقاء الإحسان إليهم، واستمرار الصلة الطيبة لكل من له حق عليك. ولا يشترط في الصلة أن تغشى أنديتهم، وتجلس في مجالسهم، وتتحمل ما فيها من منكرات كما يتوهم بعض الأخيار. إنما يمكنك تحقيق الصلة بأن لا تقطعهم تماماً، فتسلم عليهم في المناسبات، وتلبي دعوتهم الخالية من المنكر. بل إن الصلة تتحقق اليوم برسالة الجوال، التي فيها تهنئة، أو كلمات جميلة، بمناسبة وبدون مناسبة. وهي من المخارج التي ييسير الله لمن يتقيه. جاء في صحيح ابن حبان، عن عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: /من التمس رضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه، وأرضى عنه الناس. ومن التمس رضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس/. هذا ما يجب علينا أن نأخذ به أنفسنا بعد هذه الفتوى. وأن نكون جادين فيه. فما كان بالأمس حراماً، لا يزال على حرمته، إن لم تكن حرمته قد اشتدت. فقد زاد الشر والتهب سعار الفتن بشبهاتها وشهواتها عبد الرحمن بن محمد المسيعد