رؤية معرفية في فكر بعض النسوة السعوديات الإداري المتأمل لإدارات الأعمال الوظيفية النسائية في السعودية يراها أعمالا ذكورية في الغالب، يشيع فيها جنس الرجل على جنس المرأة، بحيث يدير الرجل مسؤوليات العمل العليا ويبقى دور المرأة تنفيذياً بحتاً، كما في إدارات تعليم البنات وكليات البنات. ولهذا نسمع بين آن وآخر دعوة ملحة إلى (نَسْوَنة) هذه الأعمال النسائية بإعطاء المرأة دوراً أكبر، لتسهم في دفع عجلة التنمية، وتسيير دفة المجتمع. بل جاوزت المطالبة عند البعض هذا الحد إلى المطالبة بمشاركة المرأة للرجل في كافة ميادين العمل الحكومي!! ولعدم معقولية هذا الطلب الأخير، فسأقصر حديثي في هذا المقال عند النوع الأول الذي يطالب بإسناد إدارة الأعمال النسائية إلى المرأة نفسها. هذا التوجه بدأ السير نحوه بقوة، فقد تم إنشاء جامعة نسائية خاصة، والطريق ماض نحو تعليم البنات. وهذا أمر إيجابي بلا شك، بيد أن ثمة حاجة إلى التعرف على أبرز سلبيات الفكر النسوي الإداري (عند بعضهن) قبل المضي في هذا الطريق. إن هذه السطور تأتي لتتناول هذا الموضوع من خلال أنموذج نسائي يعطي تصوراً عن بعض المفاهيم التي تحملها بعض النساء عن العمل الإداري. وسأستعين في هذه المقاربة بأدوات اللغويات المعرفية في الكشف عن المنظومة الفكرية التي تحكم عقل المرأة المديرة في ذاك النموذج، وهو نموذج استظهرته من خلال أحد الردود التي كتبها مسؤولات إحدى كليات البنات ونشرت في جريدة الرياض في عددها (13797)، خاصة وكاتبات الرد يقلن إنه يمثل (بعض الأستاذات وكافة رئيسات الأقسام ووكيلات الكلية... ويمثل إدارة هذه الكلية المباشرة على مختلف مستوياتها الإدارية)، فهو لا يمثل امرأة واحدة، بل جميع إداريات الكلية، مما يجعله مثلا مناسباً لإعطاء تصور واضح عن فكر المرأة الإداري عند تلك الإداريات. هذا الرد يأتي إثر خلاف بين أستاذات الكلية وإدارتها حول الدوام، فبعض الأستاذات يرين أنهن مطالبات بالحضور وقت محاضراتهن التدريسية والمكتبية فقط، في حين أن إدارة الكلية تطالبهن بالحضور سبع ساعات يومياً استنادا على نص في اللائحة يلزم الأستاذ الجامعي ب 35 ساعة عمل أسبوعياً. فكيف تعاملت المرأة المديرة والمسؤولة مع هذه القضية؟ هذا ما سأوضحه في السطور القادمة، مع التنبيه على أني جعلت ما تم نقله بالنص عن خطاب إدارة الكلية بين معقوفتين بهذا الشكل []، كشاهد على ما أستنتجه، وليميز القارئ كلامي من كلامهن. إن اللغة كما يرى أصحاب النظرية المعرفية تختزن مجموعة من الإحالات والتقاطعات من خلال عبارات وألفاظ (استعارات) مجتلبة من سياقاتها الأصلية وزرعها وسط السياق الملفوظ ، هذه الإحالات تبنى على فكرة استعارية تشبيهية كبرى تعاين الشيء من خلال مقارنته (بوعي أو بدون) بشيء آخر. وهذه الإحالات والمقارنات المنثورة في الكلام تفضح الوعي المعرفي الرئيس الذي يعاين به الإنسان هذا السياق الجديد، وهي موجودة في كل خطاب إنساني بقصد أو بدون. ويمكن استظهارها بكثرة لافتة في خطاب المسؤولات الأكاديميات السالف الذكر بما يكشف عن طبيعة الفكر الإداري عندهن. إن المرأة المسؤولة في ذاك الخطاب تنظر إلى العمل بوصفه شعيرة مقدسة لا يمكن المساس بدقائقها وجزئياتها، ويجب أن تؤدى كما وردت في النص الأصل دون تحريف أو تعطيل أو تأجيل. لذلك يتعامل هذا الخطاب مع نصوص اللائحة والتعاميم الصادرة من إدارة الكليات على أنها نص مقدس، لا يمكن تعطيله، أو التهاون في تطبيقه، وهو ما يظهر في وصف اللوائح ببعض أوصاف النص المقدس، حيث يقول الرد: [أشرن إلى وجود لائحة دون الاقتباس منها،أما أن الاقتباس يتم وفق الهوى]، فاستعمال كلمة (الاقتباس)، -وليس (النقل)- يرد في الأخذ عن الديني، ولذا سمي إدراج الآية في الكلام اقتباساً، مما يظهر كيف أن اللائحة في نظر تلك المرأة المسؤولة تتخذ وضعية النص الديني المقدس، لذا سيعامل معاملة النص الديني في التطبيق والتنفيذ. يؤكد هذا استعمالهن آليات التفكير الفقهي الاستدلالي: (الحكم والدليل)، ف(حكم) ما تفعله الكلية مشروع أحياناً أو واجب أحياناً أخرى، و(الدليل قوله) في المادة كذا أو التعميم كذا. وهذا يفسر الكم الهائل من التعاميم التي استند عليها الخطاب، فكل تعميم هو (دليل مشروعية) لما تفعله عمادة الكلية، وبهذا يصبح دور تلك النساء المسؤولات مقتصراً على مجرد التطبيق الحرفي النصي لكل ما ورد في التعاميم الرسمية. إزاء هذا التصور التقديسي للوظيفة عند تيك المسؤولات، كان طبعياً أن يتم اعتبار مديريها ومسؤوليها سلطة فوقية علوية ترفع إليها الأعمال، وذلك حينما يتحدثن عن أن من لا تلتزم بالتعاميم والتعليمات: [يرفع عنها لجهات الاختصاص]. فالمسؤول في الأعلى المقدس الذي يرفعه عن سياقه الإنساني، ويجعله في منزلة فوقية سامية. ولأن غرض الشعائر الدينية –كما في كل الأديان- الحفاظ على ضرورات الإنسان الكبرى، كالشرف والأمانة وإحقاق الحق ونبذ الباطل، لذلك يتضح هذا الحس في لغة ذاك الخطاب، فمسؤولات الكلية يعرفن [ما حملناه من أمانة الكلمة]، ويعتبرن[الطالبات أمانة في أعناقنا]، وهن يدركن [شرف المهنة]، ويسعين إلى أن [نذود عن حياض الكلية]، والأستاذات اللاتي يخالفنهن يحاولن عرض [الأمر بطريقة تلبس بها الباطل ثوب الحق]. هذه الاستعمالات الكبيرة الضخمة (الأمانة- الشرف- الباطل- الحق) قد يستغرب القارئ ورودها في سياق أمر تنظيمي يسير، هو سماح عمادة الكلية لأستاذات الكلية بالخروج أسوة بغيرهن من أساتذة الجامعات، ولكن هذا الاستغراب سيزول عندما نعرف أن ذلك هو فكر أولئك النسوة الإداري، فالمرأة المسؤولة هناك تتعامل مع الوظيفة بوصفها شعيرة دينية، مثلها مثل أي شعيرة أخرى تسعى إلى ترسيخ القيم والأخلاقيات الكبرى التي لا غنى لحياة الإنسان عنها. ومكان العمل سيتخذ في ظل هذا التصور القداسة ذاتها التي تأخذها أماكن العبادة عادة، ذلك أن المكان الذي يحتضن الشعيرة يتطلب سلوكيات خاصة تدل على التوقير والإجلال والاحترام لذاك المكان المقدس، وأهم تلك السلوكيات هو الوقوف والقيام بوصفه الفعل الذي يحضر في أداء معظم الشعائر الدينية المقدسة تقريباً، من هنا كان تصوير مسؤولات الكلية لأداء العمل بصورة مثلى قياماً ووقوفاً، فقد كان [لعمادة الكلية وقفات إيجابية] كما يقلن، وهن يسعين إلى [النهوض بمستوى الأداء]، وأولئك الأستاذات هل [قمن بهذه الواجبات] التي طلبتها عمادة الكلية؟!. هذه القداسة التي يأخذها مكان العمل تجعله في نظر المرأة المسؤولة في الخطاب مكاناً لا ينبغي الخروج منه وقت العمل، مثلما أنه لا يجوز الخروج من مكان العبادة وقت التعبد، لذلك عد خروج الأستاذات مع أنهن ليس لديهن عمل هروباً في نظر مسؤولات الكلية، كما يدل عنوان الرد: [هل الهرب يعد إنجازاً]، والأستاذات يحاولن –كما جاء في الرد-:[البحث عن سبل للهروب من العمل]. إنها القداسة التي تنظر إلى مكان العمل بوصفه مكاناً مقدساً يحتضن عملا شعائرياً يجب أن لا يخرج الإنسان منه إلا عند انتهائه. والشعيرة تتطلب دقة في الحساب، ليأخذ المحسن ثمرة إحسانه ويعاقب المسيء على إساءته، ولئلا يضيع حق أي طرف من الأطراف. هذه الدقة في المحاسبة انعكست في عبارات ذاك الخطاب، حيث العبارات والألفاظ الرياضية التي تكفل المحاسبة الدقيقة. فنحن نرى استعمالهن القسمة [قسمت على أيام العمل]، والتعويض [تعويض الباحثة عن ساعات العمل] والحسبة الرياضية [عدم احتساب الأعمال الإدارية] و[تحسب من الساعات المكتبية]. هذا هو منطق العقل الذي يعتقد أنه يحاسب على شعيرة مقدسة، فلا تفوته صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ودونها لصاحبها إما له أو عليه. كما أن المرأة المسؤولة في ذاك الخطاب تتعامل مع من تحت يدها من موظفات بمنظار الطاعة والمعصية، فمن أطاع تعليمات الإدارة دخل في حزبها، ومن عصاها دخل في حزب اللاهين العابثين. ولا توجد منطقة وسط، أو منزلة بين المنزلتين، فالموظفات إما مطيعات وإما عاصيات. المطيع هو الذي ينصاع للتعليمات والأوامر، والعاصي هو الذي يفهم هذه التعليمات بطريقته الخاصة أو يعترض على تطبيقها. ومن يعص التشريع في الفهم الديني يذهب إلى (الهاوية).وهذا ما تقوله لغة المرأة المديرة في الخطاب، فعدم تنفيذ العمل كما يأمر به التعميم الوظيفي والمسؤول الإداري هو (الهاوية) الذي يخشين من وصول الكلية إليها، لذلك يقلن عن الأستاذات [أن ما يطلبنه ويسعين إلى تحقيقه ... لا يصل بنا الا إلى (هاوية) من الفوضى] - على حد تعبيرهن-. هذا التصور المعرفي للعمل عند أولئك النسوة ومن سار على نهجهن يسهم في تسريب كثير من الأخطاء والسلبيات إلى أدائهن الإداري الوظيفي. فقد تفقد المرأة المرونة في إدارة العمل، لأن المقدس لا يقبل المراجعة أو الرأي الشخصي، بل هو واجب التطبيق دون اعتراض أو مناقشة. وهذا يفسر كثرة المشاكل التي تجدها المرأة العاملة مع بعض المسؤولات، وهو ما يعرفه العاملون في هذا القطاع جيداً. وإذا كان هذا التصور قد ظهر في إدارة أكاديمية تابعة لإحدى الكليات، فظهوره لدى بعض النساء العاملات في أعمال إدارية أقل سيكون أوضح وأظهر. هذا الاستنتاج يدفعني إلى العودة نحو السؤال السابق: هل هذا هو الوقت المناسب لتدير المرأة كامل شؤونها؟. انطلاقاً مما سبق أقول إن بعض النساء لا تزال ناقصة التأهيل بسبب تصورها المعرفي الخاطئ عن الإدارة والوظيفة، فهدف إحلال المرأة في تلك الوظائف ليس هو استبدال امرأة برجل، وإنما هو تسيير أمور العمل بصورة مرنة صحيحة نافعة سواء أدى ذلك الرجل أو المرأة. لكن هل يعني هذا حكماً أبدياً على فشل أولئك النسوة إدارياً وأنهن لا يمكن أن ينجحن في الإدارة؟!، الحق أن هذه التصورات المعرفية ليست أبدية بل هي قابلة للتغيير، إذ يمكن ضخ تصورات صحيحة وجديدة عبر تأهيلهن وتعليمهن تقنيات الإدارة الناجحة قبل أن يزج بهن في سدة المسؤولية، وهو ما يعرف في اللغويات المعرفية بإعادة التأطير. وعندما يحدث ذلك يمكن لنا أن نطالب مع المطالبين ب (نسونة) الوظائف النسائية مادامت ستكون في صالح العمل لا ضده. د - ابراهيم التركي [email protected] ================================================================ تعليقات الزوار منى سعادة الدكتور........ اولا اهنئ نفسي واهني صحيفتنا بوجودك وانضمامك الى هذه الصحيفة التي سترتقي بنا نحو الأفضل......... ثانيا... كلامك واقعي وكل ماذكرت نشاهده سيناريو مازال يتكرر وستكرر مالم نخطو خطوة نحو التغيير........ لكني اجدك مع هذا اثقلت علينا بكلمة الفشل وكأنك تصدر حكما بائسا لن يتحسن ....... نعم ربما فشلنا لكن مازال هناك بصيص من الامل وهي الارادة القوية والطموحة لإدارة جيدة........ مشكلة الادارة النسوية هي عدم وجود اللامركزية ثم اللامركزية وهنا تكمن المشكلة مادمنا تابعات ولسنا مستقلات فأننا سنعاني الفشل كل يوم..... وارى المشكلة ليست في هذا الجانب فقط انما هي البيروقراطية والتي تسير على نهجها وتطبقها كل الادارت بكل حذافيرها والتي تكون فيها المرونة معدومة فمابالك عندما يزداد المكيال على الادارة النسوية المعاقة والتي لاتخطو خطوة واحدة الا بتعليمات من الادارة العليا........ لن نفشل طالما نستطيع ان نمسك بزمام الامور بباطنها وظاهرها وانا اتأمل بهذا الجيل انه جيل ذو فكر اداري مرن بعكس الجيل السابق مع احترامي لهن والذي تشربن اليبروقراطية واصبحت تسري في دمائهن.......لكن امنحونا فرصة مطلقة وسترون النجاح........ نعم انا مازلت طالبة ولم امارس العمل الاداري لكني تحدثت من الواقع الذي اتعايشه........ اخيرا اشكرك دكتور على هذه المقالة الرائعة وعلى هذا التحليل المعرفي الذي طالما نحتاجة لنرى الامور بمجهر ميكروسكوبي حتى نتقدم دائما فاهم مبدع في طرحك كما اخلاقك يادكتور بريداوي احسنت بارك الله فيك ابراهيم الجارالله مقال واقعي وفي الصميم فهد العمر اضم صوتي للاخوة مقال ممتاز متفكر سلام الله عليك أستاذي الفاضل الدكتور أبو أحمد يعلم الله أني تعلمتُ منك الكثير , دون أن تدرك ذلك أو تعتمد تعليمي , فأخلاقك ورقي تعاملك , وانصاتك , واحترامك لرأي المخالف , وغير ذلك أمور كثيرة قد لايسعني حصرها وقد اكون تعلمتُ منك أشياء لاأعلم اني تعلمتها منك , ولعل هذا أمر يقيني اتوقعه . الرائع جداً أنك قلتَ نساؤنا والفشل الاداري , ثم أردفتَ عنوان أسفله رؤية معرفية في فكر ((بعض))(( النسوة السعوديات)) الإداري , وهذا ماخفف من معونتي التي كنتُ متزوداً بها قبل الرد على مقالك , وذلك لقناعتي أن المرأة لاتختلف عن الرجل شورى نفير إلا بالتكوين الجسدي والبيلوجي (والشعائر التعبدية التي تخصها) فيما يخص المرأة المسلمة . وبما أننا تحررنا من العموميات بحق المرأة واتفقتُ معك بأن هذه الحالة قد تخص المرأة السعودية , فإني أعتقد الى أننا وصلنا إلى نقطة افتراق حينما نفسر الاسباب الداعية لذلك , وحينما نضع أصبعنا على الأسباب ندرك ونعرف لماذا هذه المشكلة وقعت . إن المجتمعات التي تنشأ فيها المرأة على الألتزام الحرفي للسلطة الذكورية تصبح مختزنة في الذهنية بشكل لاواعي فهو الذي يقضي حوائجها بجميع شؤون حياتها وهي التي يجب ألا تقدم على خطوة إلا وقد أخذت موافقة ذلك الذكر كولي الأمر مثلاً, فهي لم تعتاد المبادرة في اتخاذ قرارات من تلقاء نفسها او تقدير وفهم خاص لها , فهي أعتادت منذ الولادة مروراً بمرحلة تحضير درساتها العليا نهاية إلى تعيينها مديرة إلى الاستشارة للرجل واتخاذ رأيه مسلكاً والعمل به بدقة , بل حتى الذي نصبها مديرة هو رجل , فأرتباط الغطاء الذكوري يجعل المراة معتادة على هذا الغطاء . إذاً السبب هو ثقافي في نظري . تحياتي وتقديري لك , ونحن بإنظار مقالك القادم