قال إمام وخطيب المسجد النَبَوِيّ الشيخ الدكتور صلاح البدير – في خطبة الْجُمُعَة الثَّانِية بعد أداء فريضة الحج – مُوَجّهَاً حديثه لضيوف الرحمن: لقد فتحتم في حياتكم صفحة بيضاء نقية، ولبستم بعد حجكم ثياباً طاهرة نقية، فما أحسن الحسنة تتبعها الحسنة، وما أقبح السيئة بعد الحسنة. وأَضَافَ: أيها المسلمون، العبودية أشرف المقامات، وأسمى الدرجات، وفي الأيام القليلة الخَالِية قضى الحجاج عبادة من أعظم العبادات، وقربة من أعظم القربات، تجردوا لله من المخيط عند الميقات، وهلت دموع التوبة في صعيد عرفات على الوجنات، خجلاً من الهفوات والعثرات، وضجت بالافتقار إلى الله كل الأصوات، فهنيئاً للحجاج حجُهم، وللعُبَّاد عبادتهم واجتهادهم. وحث قَائِلاً: حجاج بيت الله الحرام، اشكروا الله على ما أولاكم، واحمدوه على ما حباكم وأعطاكم، تتابع عليكم برّه، واتصال خيره، وعم عطاؤه، وكملت فواضله، وتمت نوافله، قَالَ تعالى: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ). وَتَابَعَ: حجاج بيت الله الحرام، ظنوا بربكم كل جميل، وأملوا كل خير جزيل، وقووا رجاءكم بالله في قبول حجكم، ومحو ما سلف من ذنوبكم، فقد جاء في الحديث القدسي: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي) أخرجه الشيخان. وقال: يا من حججتم البيت العتيق، وجئتم من كل فج عميق، ولبيتم من كل طرف سحيق، ها أنتم وقد كمل حجكم وَتَمَّ تفثكم، بعد أن وقفتم على هاتيك المشاعر، وأديتم تلك الشعائر، ها أنتم تتهيؤون للرجوع إلى دياركم، فاحذروا من العودة إلى التلوث بالمحرمات، والتلفع بالمعرات، والتحاف المسبات، قَالَ تعالى: (وَلَا تَكُونُواْ كَ0لَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً)، امْرَأَة حمقاء خرقاء، ملتاثة العقل، تجهد صباح مساء في معالجة صوفها، حتى إذا صار خيطاً سوياً ومحكماً قوياً عادت عليه تحل شعيراته، وتنقض محكماته، وتجعله بعد القوة منكوثاً، وبعد الصلاح محُلُولاً، ولم تجنِ من صنيعها إلا الإرهاق والمشاق، فإياكم أن تكونوا مثلها، فتهدموا ما بنيتم، وتبددوا ما جمعتم، وتنقضوا ما أحكمتم. وأَرْدَفَ: إن للحج المبرور إِمَارَة، ولقبوله منارة، سئل الحسن البصري رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: ما الحج المبرور؟ فقال: أن تعود زاهداً في الدنيا، راغباً في الآخرة، فليكن حجكم حاجزاً لكم عن مواقع الهلكة، ومانعاً لكم من المزالق المتلفة، وباعثاً لكم إلى المزيد من الخيرات وفعل الصالحات، واعلموا أن المؤمن ليس له منتهى من صالح العمل إلا حلول الأجل، وما أجمل أن يعود الحاج بعد حجه إلى أهله ووطنه بالخلق الأكمل، والعقل الأرزن، والوقار الأرصن، والعرض الأصون، والشيم المرضية، والسجايا الكريمة، ما أجمل أن يعود الحاج حسن المعاملة، كريم المعاشرة لأولاده، طاهر الفؤاد، ناهجاً منهج الحق والعدل والسداد، المضمر منه خير من المظهر، والخافي أجمل من البادي، وإن من يعود بعد الحج بتلك الصفات الجميلة هو حقاً من استفاد من الحج وأسراره ودروسه وآثاره. وأَضَافَ: إن الحاج مُنْذُ أن يُلبي وحتى يقضي حجه وينتهي فإن كل أَعْمَال حجه ومناسكه تعرفه بالله، تذكره بحقوقه وخصائص ألوهيته جل في علاه، وأنه لا يستحق العبادة سواه. وقال: من لبى لله في الحج مستجيباً لندائه كيف يلبي بَعْدَ ذَلِكَ لأمر يخالف الْكِتَاب وَالسُّنَّة والشريعة، من لبى لله في الحج فليلبِّ له في كل مكان وزمان بالاستجابة لأمره أنى توجهت ركائبه، وحيث استقلت مضاربه، يا عبدالله، يا من ذهبت عليه مواسم الخيرات والرحمات وهو منشغل بالملاهي والمنكرات، أما رأيت قوافل الحجاج والمعتمرين والعابدين، أما رأيت تجرد المحرمين، وأكفّ الرَاغِبِين، ودموع التائبين. أما سمعت صوت الملبين المكبرين المهللين، فما لك قد مرّت عليك خير أَيَّام الدنيا على الإطلاق وأنت في الهوى قد شُد عليك الوثاق. وأَضَافَ: يا من راح في المعاصي وغدا، يقول: سأتوب اليوم أو غداً، يا من أصبح قلبه في الهوى مبدداً، وأمسى بالجهل جلمداً، وبالشهوات محبوساً مقيداً، تذكر ليلة تبيت في القبر مُنْفَرِدَاً، وبادر بالمتاب ما دمت في زمن الإنظار، واستدرك فائتاً قبل أن لا تُقل العثار، وأقلع عن الذنوب والأوزار، إن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، حتى تطلع الشمس من مغربها والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.