هذه السنّة الاجتماعية العظيمة أسست لها آيات قرآنية كريمة, فقد نص عليها صراحة كما جاء في قول الله تعالى:" وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ"(البقرة:251)… كما نجدها في قول الله تعالى:"وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ"(الحج:40). وهي سنّة اجتماعية تحكم سائر المجتمعات البشرية, وتصطبغ بها كل مظاهر الحياة الإنسانية, بغض النظر, عن أية اعتبارات أخرى, فالنص بين أيدينا يحكم حياة (الناس), كل الناس عامة, ولم يخصه بالمسلمين والكافرين فقط، إظهارا لعموم هذه السنّة الاجتماعية, حيث لا استثناء لأحد. والتاريخ البشري, لمن يتأمل, عبارة عن حركة دائبة, وتفاعل مستمر, بين جبهتين متضادتين.. بين الإيمان والكفر.. بين الحق والباطل.. بين الخبيث والطيب..بين الظلم والعدل.. ولن يكون لأحد الجبهتين الغلبة المطلقة على مدار التاريخ كله, فيخفت الكفر حينا ويعلو الإيمان.. ويذهب الظلم ساعة ويسود العدل.. وقد يأخذ الخبيث جولة، ثم ما يلبث الطيب أن يعود ويسود. يقول صاحب الظلال: "لقد كانت الحياة كلها تأسن وتتعفن لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض. ولولا أن في طبيعة الناس التي فطرهم الله عليها أن تتعارض مصالحهم واتجاهاتهم الظاهرية القريبة، لتنطلق الطاقات كلها تتزاحم وتتغالب وتتدافع، فتنفض عنها الكسل والخمول، وتستجيش ما فيها من مكنونات مذخورة، وتظل أبداً يقظة عاملة، مستنبطة لذخائر الأرض مستخدمة قواها وأسرارها الدفينة.. وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء". ومن وراء كشف القرآن الكريم عن هذه السنة، فتح المجال أمام اصطراع القوى وتنافس الطاقات وانطلاق السعي في تيار الحياة المتدفق, وفسح المجال للطاقات كلها تتزاحم وتتدافع فتنفض عنها الكسل والخمول وتستجيش ما فيها من مكنونات. فالتدافع، يحدث حينما يتدافع الحق والباطل, فيميز الله الخبيث من الطيب, ويظهر الحق ناصعا قويا, ويعلم أهل الحق أن إظهاره لم يكن سهلا يسيرا, بل كان شاقا عسيرا, فيحافظون عليه, خشية عودة الباطل, الذي يغتلظ أهله من علو الحق, فيعدون العدة لتكون لهم الكره, فيكون صراعا جديدا يميز به الله من جديد بين الخبيث والباطل, وهكذا تكون مقاومة الشر ومدافعة الباطل إلى يوم الدين. وغياب هذا المعنى الاجتماعي, وتلك السنّة عن أذهان البشر, تحدث في النفس البشرية من الاعتقاد بالجبر والإرجاء, ما يقود إلى تعطيل الطاقات, فيركن الجميع إلى القدرة الخفية في تسيير أمور الكون, فيأسن بحر الحياة, وتتعطل مظاهر الكون, فلا يعرف الحق من الباطل.