الحمد لله المتصف بالجلال والكمال، المنزه عن الأشباه والأمثال، خلق الخلق فدبرهم، وابتلى عباده وفتنهم، نحمده في كل الأحوال، ونشكره على الدوام؛ فنعمه متتابعة، وآلاؤه مترادفة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ جعل الدنيا دار امتحان وفناء، وجعل الآخرة للجزاء والقرار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ حج حجة واحدة؛ فشرع الشرائع، وبين المناسك، وودع الناس، وأمر أمته بالتأسي به قائلا: «لتأخذوا عني مناسككم» صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله تعالى في هذه الأيام الفاضلة، والتزود فيها من الأعمال الصالحة؛ فإنها خير أيام السنة على الإطلاق، وعيدها أكبر الأعياد، وشعائرها أشهر الشعائر وأجلها، وتجتمع فيها أمهات العبادات من صلاة وصوم وحج وإنفاق وذبح للضحايا والهدايا. ولأنها أيام في الشرع كبيرة، ومناسكها وأعمالها كثيرة؛ شرع في أيامها التكبير، وتنوع فيها الذكر، {وَيَذْكروا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلومَاتٍ} [الحج: 28]، وفي الآية الأخرى {وَاذْكروا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدودَاتٍ} [البقرة: 203]. أيها الناس: للحج ارتباط كبير بيوم القيامة من حيث ضخامة الأعمال، وشدة الزحام، وكثرة الجمع؛ حتى إن السورة المسماة بسورة الحج، وقد تضمنت خبر بناء البيت، وأذان الخليل بالحج، وذكر الضحايا والهدايا، وأعمال القلوب في المناسك.. هذه السورة العظيمة قد افتتحت بمشاهد القيامة {يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا رَبَّكمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَل كل مرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَع كل ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سكَارَى وَمَا همْ بِسكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1-2]. إن من تأمل الحج وجده مذكر بيوم القيامة؛ فالحاج مسافر سفرا مخوفا، لا يدري ما يعرض له في سفره ولا في أداء مناسكه؛ ولذا تأكد في حقه أن يؤدي الحقوق التي عليه، وأن يكتب وصيته.. والإنسان في الدنيا في سفر، والمخاطر تحيط به، والمنايا تتخطفه، فإن أخطأه بعضها أصابه غيرها، ونحن نرى كثرة موت الفجأة في الناس. وبالإحرام يتجرد الحاج من ثيابه، ويلبس الإزار والرداء، فيترك ثياب الزينة والطيب، ويمسك عن شعره وأظفاره، وهذا يذكره بالموت والكفن، وترك الدنيا وزينتها، والوحدة في القبر، فلا رفيق له فيه سوى عمله؛ فإما عمل صالح يؤنسه ويسعده، وإما عمل سيء يزعجه ويعذبه، ويتذكر الحاج وهو في هذه الحال قول الله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتمونَا فرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتمْ مَا خَوَّلْنَاكمْ وَرَاءَ ظهورِكمْ} [الأنعام: 94]. والحج من العبادات التي تكثر فيها التنقلات بحسب الزمان والمناسك، بل لا عبادة من العبادات مثل الحج في كثرة التنقل؛ فانتقال من حال إلى حال، ومن مكان إلى مكان، ومن عمل إلى آخر.. انتقال من الميقات إلى الحرم، ومن الحرم إلى منى ثم إلى عرفة، ثم العودة إلى مزدلفة فمنى فالحرم.. وانتقال في الأعمال من الإحرام إلى الطواف والسعي، ثم المبيت بمنى، والوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، ورمي الجمار، وذبح الهدي والإحلال، ثم الطواف بالبيت، فالمبيت بمنى ورمي الجمار أيام التشريق، فوداع البيت.. أيام قلائل، مزدحمة بالأعمال، سمتها البارزة كثرة التنقلات، وعدم الاستقرار، حتى إن أيام الحج الخمسة لمن تعجل أو الستة لمن تأخر كأنها أشهر وليست أياما معدودة.. يرى الحاج وهو يتنقل في المشاعر لأداء المناسك وإظهار الشعائر مئات الألوف يسيرون معه، وألوف أخرى قد سبقته، وألوف أخرى تأتي بعده، في حال من التنقل والازدحام تحرك القلوب رهبة مما يخشى حدوثه، ورغبة في إكمال النسك.. وهذا يذكر بما يكون من تنقلات كبرى يوم القيامة في يوم وصف بأنه كألف سنة، والإخبار عن ذلك جاء في سورة الحج في قول الله تعالى: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعدونَ} [الحج: 47]، ووصف في سورة المعارج بأنه كخمسين ألف سنة. إن تنقلات يوم القيامة تشمل تنقلات المكان والأحوال؛ فمن بعث القبور إلى أرض المحشر، ودنو الشمس من رؤوس الخلق، وشدة الزحام، وكثرة العرق، واشتداد الكرب، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف، ثم الحساب، فعرض الصحف، ووزن الأشخاص والصحف والأعمال، والمرور على الصراط، وغير ذلك من تنقلات إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار. واختار الله تعالى لأداء المناسك بقعة هي من أشد بقاع الأرض حرارة، وهذا يذكر الحجاج بحر يوم القيامة، وقرب الشمس من رؤوس الخلق، وغزارة العرق فيه. ولكن رغم طول يوم القيامة، وشدة الحساب فيه، وكثرة أحواله وانتقال الناس من مرحلة إلى أخرى؛ فإن من الناس من لا يحسون بطوله؛ لأنهم مستظلون بظل الرحمن سبحانه، قد يسر الله تعالى حسابهم، ويمن كتابهم، وثقل ميزانهم، فيكون يوم القيامة عليهم كنصف نهار فقط، فيقيلون في الجنة كما قال الله تعالى: {أَصْحَاب الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مسْتَقَراً وَأَحْسَن مَقِيلاً} [الفرقان: 24]، وبين سبحانه يسر الحساب عليهم فقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أوتِيَ كِتَابَه بِيَمِينِهِ. فَسَوْفَ يحَاسَب حِسَاباً يَسِيراً. وَيَنْقَلِب إِلَى أَهْلِهِ مَسْروراً} [الإنشقاق: 7-9]، بخلاف أهل الكفر والنفاق الذين يعسر عليهم الحساب كما قال تعالى: {وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} [الفرقان: 26]، وقال تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ. عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْر يَسِيرٍ} [المدثر: 9-10]. وفي أداء المناسك يلاحظ الافتراق بين الناس؛ فمنهم من يعينه الله تعالى على أداء النسك بيسر وخشوع ولذة، حتى تنتهي أيام الحج ولما يشعر بها، ويجد لذتها وحلاوتها في القرب من الله تعالى، والتقلب في أنواع العبادات، ومنهم من تمضي عليه أيام المناسك وهو في جدال وشقاق وخصام، لم يستشعر حرمة الزمان والمكان، ولا عظمة ما هو متلبس به من الإحرام.. وحين يرى الحاج تدفق الجموع على عرفة لتحقيق ركن الحج الأعظم، ثم يبصر امتلاء صعيد عرفة بهم وقد استقروا بها، وهم يجأرون إلى الله تعالى بالدعاء يتذكر الجمع العظيم، والموقف الكبير بين يدي الله عز وجل، حين «يَجْمَع اللَّه الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيبْصِرهم النَّاظِر وَيسْمِعهم الدَّاعِي، وَتَدْنو مِنْهم الشَّمْس» (صحيح مسلم)، فيا له من موقف عظيم يجمع الله تعالى فيه كل الخلق من آدم عليه السلام إلى آخر رجل من هذه الأمة، فحق على من شاهد جمع الحجيج تقف في عرفة أن يستشعر موقف القيامة {يَوْمَئِذٍ تعْرَضونَ لَا تَخْفَى مِنْكمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18]. وعندما يودع الحجاج البيت الحرام، ويخرجون من مكة إلى ديارهم يحسون براحة عظيمة، وسعادة كبيرة بسبب أدائهم للمناسك، وتحمل المشاق والزحام في سبيل ذلك، ويلهجون بحمد الله تعالى على ذلك.. يشترك في ذلك كل الحجاج تقريباً، لا يكاد أحد قد حج إلا ويحس بهذا الإحساس، ويشعر بتلك اللذة، وكذلك أهل الجنة إذا جاوزوا الحساب، واجتازوا الصراط؛ علموا أنهم قد فازوا فوزا كبيرا، وحازوا ثوابا عظيما، حينها فقط يحسون براحة لن تنقطع، وسعادة لا تنفد، وقد قيل للإمام أحمد رحمه الله تعالى: متى الراحة؟ فقال: الراحة عند أول قدم تضعها في الجنة، {وَأَقْبَلَ بَعْضهمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلونَ. قَالوا إِنَّا كنَّا قَبْل فِي أَهْلِنَا مشْفِقِينَ. فَمَنَّ اللَّه عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمومِ. إِنَّا كنَّا مِنْ قَبْل نَدْعوه إِنَّه هوَ الْبَر الرَّحِيم} [الطور: 25-28]. نسأل الله تعالى أن يرزقنا الاعتبار في الدنيا، والفوز في الآخرة، وأن يحفظ الحجاج من كل سوء ومكروه، وأن يفضح من يريد انتهاك حرمة الحرم، وأن يرد عليه كيده، إنه سميع مجيب.. وأقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم. الخطبة الثانية: الحمد لله حمدا طيبا كثيرا كما أمر، ونشكره فقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله ربكم، وتزودوا من الأعمال الصالحة ما يكون ذخرا لكم؛ فإنكم في موسم كريم تتنوع فيه العبادات، وتضاعف فيه الحسنات، وتكفر فيه السيئات، وتعظم فيه الشعائر {ذَلِكَ وَمَنْ يعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقلوبِ} [الحج: 32]. أيها المسلمون: يتدفق إخوانكم الحجاج منذ الصباح الباكر على مشعر منى ليبيتوا بها استعدادا للرحيل إلى عرفة يوم غد والوقوف بها، حيث يباهي الرب جل جلاله بأهل الموقف ملائكته عليهم السلام فيقول سبحانه: «انْظروا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شعْثاً غبْراً» (رواه أحمد). وأغلب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يقفون أمام الشاشات التلفازية ينظرون إلى مشهد الحجيج فيغبطونهم على ما هم فيه، ويدعون لهم بالسلامة، وتتعلق القلوب بتلك المشاهد الإيمانية، وتدمع العيون، فيا لها من أيام مباركة نسأل الله تعالى القبول لنا وللمسلمين. ولئن فاتكم شرف الحج هذا العام فقد شرع الله تعالى لكم صيام يوم عرفة؛ فإن صيامه يكفر سنتين فضلا من الله تعالى لكم؛ كما في حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صِيَام يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِب عَلَى اللهِ أَنْ يكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَه، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَه» (رواه مسلم). وشرع الله تعالى لكم الأضحية في يوم النحر، والأضاحي من الله تعالى وإليه سبحانه: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لحومهَا وَلَا دِمَاؤهَا وَلَكِنْ يَنَاله التَّقْوَى مِنْكمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكمْ لِتكَبِّروا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكمْ وَبَشِّرِ الْمحْسِنِينَ} [الحج: 37]، وقال أَنَس رضي الله عنه: «ضَحَّى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، فَرَأَيْته وَاضِعاً قَدَمَه عَلَى صِفَاحِهِمَا، يسَمِّي وَيكَبِّر، فَذَبَحَهمَا بِيَدِهِ» (الشيخان). والأضحية تجزئ عن الرجل وأهل بيته، ولا تجوز المباهاة بتكثيرها، كما روى عطاء بن يسار قال: سألت أبا أيوب الأنصاري: كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: «كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون حتى تباهى الناس، فصارت كما ترى» (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح). وأما ما يجب اتقاؤه من عيوب الأضحية فقد جاء في حديث البرَاء رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يضَحَّى بالْعَرْجاءِ بَيِّنٌ ظَلَعها، ولا العَورَاءِ بَيِّنٌ عَوَرهَا، ولا بالمريضَةِ بَيِّنٌ مَرضها، ولا بالعَجْفَاءِ التي لا تنْقي» (رواه الترمذي وقال: حسن صحيح). قال النووي رحمه الله تعالى: أجمعوا على أن العيوب الأربعة المذكورة في حديث البراء لا تجزئ التضحية بها، وكذا ما كان في معناها، أو أقبح منها كالعمى، وقطع الرجل وشبهه. وعن علي رضي الله عنه قال: «أمَرَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ نَسْتشْرِفَ العينَ والأذْنَ، وأن لا نضَحِّيَ بمقابَلَةٍ: ولا مدابَرَةٍ، ولا شَرْقَاءَ» (رواه الترمذي وقال: حسن صحيح)، وفي رواية أخرى له زاد «والمقابَلة: ما قطعَ طَرَف أذنها، والمدابَرة: ما قطِعَ من جانب الأذن، والشَّرْقَاء: المشْقوقَة. والْخَرقَاء: المَثْقوبَة». وعظموا الله تعالى في هذه الأيام العظيمة، وأكثروا من ذكره، واشكروه على ما أعطاكم، وكبروه على ما هداكم… وصلوا وسلموا على نبيكم…