من رحم الأزمات تولَد الفرص. إذا تأملت نتائج وتداعيات كارثة سيول جدة فستتجلى لك معاني هذه الحكمة؛ فالكارثة وما أحدثته من خسائر بشرية ومادية صدمت الجميع دون شك، مع أنها قضاء الله ومشيئته عز وجل، لكنها بالطبع لها مسببات بشرية. إنما ما بدا بعد ذلك وعندما هدأ هدير السيول وخرج الناس لتفقد ذويهم وممتلكاتهم جاء الشباب قبل غيرهم لمد يد العون كمتطوعين؛ ليثبتوا أنهم إذا مُنحوا الفرصة فسيبادرون إلى إثبات جدارتهم بالثقة، لدرجة أن مجموعة من الشباب المتطوع من الجنسين الذي يتبع إحدى الجمعيات جاء من شرق البلاد إلى جدة لمساعدة الأسر المنكوبة ومد يد العون لها، فضلا عن الشباب من الأحياء المتضررة نفسها الذين انخرطوا في العمل التطوعي مع الجمعيات التي تواجدت هناك. بالإضافة بالطبع إلى فرق الدفاع المدني والهلال الأحمر. وهذا في رأيي إحدى أهم الفرص والمنافع المنبثقة من الكارثة؛ فالكوارث والأزمات لها آثارها الضارة أو المدمرة، لكن لها أيضا آثارها الإيجابية. ألم تنهض اليابان لتصبح خلال عقود ثاني أقوى اقتصاد في العالم بعد أن هزمت هزيمة مريرة خسرت فيها مئات الآلاف من البشر وسوَّت القنبلتان النوويتان الأمريكيتان مدينتي هيروشيما وناجازاكي بالأرض؟.. طبعا أنا هنا لا أقارن أو أشبه، فهذه كارثة سيول، لكن للتدليل فقط. أضف إلى ذلك أن القرار الملكي بتشكيل لجنة المحاسبة وما أحدثه من أصداء إيجابية كبيرة لدى المواطن، ورعب لكل فاسد ومتلاعب أيا كان، هذا القرار أحدث صدمة إيجابية إن صح التعبير لدى مختلف الدوائر الحكومية الخدمية في كل المناطق. وهذا ما يريده الجمهور، فهل كنا في حاجة إلى كارثة حتى يصحو كل غافل؟ وعلى العموم لا نقول إلا قدر الله وما شاء فعل، ورحم الله من قضى في تلك الكارثة وأعان من تضرر. ونقول أيضا رب ضارة نافعة. وأشدد هنا على قيمة العمل التطوعي الأهلي ومعانيه، فهو تجسيد للقيم الإسلامية الحضارية ودلالة وعي إنساني وثقافي. فالإدارات الحكومية مهما أوتيت من إمكانيات لا تستطيع من دون دعم شعبي خدمة الناس، خاصة في الكوارث فلا بد للقطاعات الشعبية من المبادرة، وهو ما تم ومطلوب أكثر أيضا. ولعلي أشير إلى مثال على همة الشباب، ما حدث قبل أشهر عدة في عروس الشمال حائل عندما أقدم شاب على المغامرة واقتحام السيل لإنقاذ فتاة مهددة بالموت غرقا. ورفض شاب من الكشافة قاد أحد الحجاج الصينيين إلى مقر حملته بعد غياب ثلاثة أيام عنها، مكافأة مالية سخية من ذلك الحاج. والأمثلة كثيرة، لكن يكفي الإشارة لكل لبيب. مسألة أخرى لا أظن أنها تغيب على كل متأمل في تداعيات الكارثة، وهي أن الإعلام الفردي المرتبط بوسائط الإعلام الحديثة من هاتف خلوي والشبكة العنكبوتية أصبح لاعبا رئيسا في نقل الأحداث والتفاعل معها، ولم يعد ذلك محصورا في وسائل الإعلام التقليدية، بل إن هذا الإعلام الفردي تفوق أحيانا في نقل الحدث والتفاعل معه في مختلف أنحاء العالم ونحن جزء منه، ودمتم.