علاقة الإنسان بالتدوين والكتابة قديمة قدم التاريخ، إذ إن أول من دون بالقلم هو إدريس، عليه السلام، ولعل ذلك يبرز مدى أهمية التدوين في تطور الفكر البشري. العلماء والمفكرون على اختلاف اتجاهاتهم ومشاربهم يعتبرون التدوين سجل ما تنتجه وتستخلصه عقولهم والحافظ لها، وإلا تعرضت للضياع أو النسيان، حتى أن المخترعين عبر التاريخ يسجلون نتائج تجاربهم أولا بأول حتى لا ينسوا إلى أي مدى وصلت هذه التجربة أو تلك، إلى أن يكتمل الاختراع. الإمام ابن الجوزي من أكثر العلماء نتاجا وكتابة؛ إذ فاقت مؤلفاته في عددها الألف، وهي تتنوع بين العلم الشرعي والتاريخ والأدب والسير وغيرها، من بينها كتابه المشهور (صيد الخاطر) وهو نتاج تأمل وتفكر واستنتاج أفرز كتابا يحوي بين دفتيه خواطر عالم ما زالت الأجيال على مر القرون منذ رحيله تقرؤه وترجع إليه، ويبين في الوقت نفسه أهمية التدوين لحفظ الأفكار من الضياع أو التشتت. كما أن الكتابة عموما تحرك العقل وتستحث الخيال ومن ثم ترفع من القدرات الذهنية، أضف إلى ذلك أن الكتابة علاج وتنفيس، وتفريغ للمشاعر السلبية لمن يمر بأزمة عاطفية أو نفسية. فيكتور هيجو مر بأزمات اجتماعية لو كان غيره لقضي عليه من هولها، إذ ماتت زوجته وبنتاه على التوالي إحداهما بالانتحار، لكنه لم يستسلم للحزن والكآبة بل عمد إلى قلمه وأوراقه وأوقد نار ذهنه وخياله فأبدع (البؤساء)، و(أحدب نوتردام)، و(عمال البحر)، وغيرها من أعماله الشعرية والمسرحية. في وقتنا الحاضر ومع ثورة الاتصالات أصبح التدوين والمدونات في الشبكة العنكبوتية ظاهرة عالمية تفاعلت مع محيطها السياسي والاجتماعي والثقافي، وأصبحت متنفسا وقناة من خلالها يمرر أولئك الممنوعون أو الذين يريدون تجاوز الرقابة أفكارهم وأطروحاتهم وحتى حملاتهم على اختلاف أهدافها، حتى رأينا كثيرا من الدول عمدت إلى إغلاق كثير من المدونات لما رأت أنها تجاوزت الخطوط الحمراء، لكن على كل حال يبين ذلك تأثير التدوين ومكانته. من جهة أخرى، أعود إلى نقطة أن الكتابة والمدونات عبر الإنترنت كمثال، هي متنفس وتفريغ للكبت والمنع، لكن ليس كل تدوين، وإنما ذلك الهادف الذي ينطلق من مبادئ وطنية ليس هدفها التخريب وإثارة البلبلة والتهريج، وإنما النقد والتنوير والتثقيف من دون تشنج أو إسفاف، لأن الشبكة العنكبوتية فضاء مفتوح، وليس كل من فيه وما فيه جادا. أما تدوين اليوميات فهي من أرقى العادات ومرآة ذاتية وبوح، ويكفي للمرء أن يطالعها بعد فترة من الزمن ليرى كيف كان يفكر وكيف نضج وتطورت شخصيته، فضلا عما تثيره من ذكريات وشجون، وهي عادة العلماء والمفكرين والسياسيين والقادة، كما أنها نصيحتهم للعموم لما تسهم به في نضج الشخصية وحفظ الذكريات والفضفضة وتفريغ الشحن النفسي. ولعل من أشهرها كمثال (مذكراتي) للسلطان عبدالحميد الثاني، رحمه الله، و(مذكرات أميرة عربية) وهي لأميرة عمانية.