عند دخولك الحرم المكي أو المدني تلحظ زحاما شديدا، وشحا كبيرا في الأماكن المتاحة للصلاة أو للجلوس. ومع هذا الشح تبرز ظاهرة مزعجة طالما تحدث الدعاة والعلماء عن عدم جوازها، فلم يعد خافيا على الزائرين رؤية بعض السماسرة الذين يساومون على أماكن حجزوها مسبقا، فيتم ابتزازك ماديا؛ لتحظى بمكان محترم في الحرمين الشريفين، وهذا الصنف يرفض النصيحة، ليكون الدور الملقى على عاتق الشؤون الخاصة بالحرمين كبيرا وعظيما؛ لأن ملاحقتهم ليست بالأمر الهين، ولعل الحديث عن هذه الظاهرة وبيان حكمها، قد يثمر عن التخفيف منها، ومحاولة تقديم الوعي اللازم حيالها. لا يجوز وكان الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ المفتى العام للسعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية، أفتى في وقت سابق بعدم جواز حجز الأماكن فى الصفوف الأولى لأشخاص يأتون متأخرين للصلاة فى المسجد الحرام أو المسجد النبوي أو لا يدخلون المسجد إلا عند الإقامة، مشيرا إلى أن الذين يدفعون المال من أجل أن تحجز لهم تلك الأماكن (آثمون)، والحاجزون (آثمون)، ومن سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق. وقال سماحته: هذا الذي يدفع المبلغ ليُحجز له لا يحضر للصلاة إلا عند إقامة الصلاة، ويقول إن فى الروضة وخلف الإمام بيني وبين الإمام صف واحد، وأنا لا أصلي إلا في الحرم خلف الإمام، أقول ليعلم هذا أن ليس له من الأجر إلا بعد مجيئه المسجد، ورُب من كان في المصابيح أو الدور الأعلى أسبق منه عملا بتقدمه. ولهذا من أتى المسجد تصلي عليه الملائكة، فالذي لا يأتي إلا مع الإقامة أو يوم الجمعة لا يأتي إلا عند دخول الخطيب، تطوى الملائكة الصحف وتستمع الذكر، وقال المفتى العام: “لا يجوز لهؤلاء حجز الأماكن ولا يجوز لأي مسلم أن يدفع مبلغا ماليا لمن يحجز له، التقدم ليس بالمكان، التقدم بالإتيان مبكرا، فمن أتى مبكرا ولو فى آخر الصفوف أفضل ممن لم يأت إلا متأخرا، ولو كان في المقدمة”، وأكد أن الدافعين (آثمون) والحاجزين (آثمون)، ومن سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق. النهي عنها في البداية أكد الشيخ عبيدة العبيدي، أن النبي صلى الله عليه وسلم “نهي أن يوطن الرجل المكان فى المسجد كما يوطن البعير”. ولا شك أن هذا الفعل بدعة ما أنزل الله بها من سلطان؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: “من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد”. رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها فلم يرد هذا الفعل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة رضوان الله عليهم، ولو كان خيرا لسبقونا إليه. وقال الإمام السعدي يرحمه الله: “فلو علم المتجر أنه آثم وأن صلاته فى مؤخر المسجد أفضل له وأسلم له من الإثم؛ لم يتجرأ على هذا ولبَعُد غاية البُعد، وكيف يكون مأجورا بفعل محرم لا يجوز؟”. وقال أيضا: “إن التحجر فى المساجد ووضع العصا، والإنسان متأخر عن الحضور لا يحل ولا يجوز؛ لأن ذلك مخالفة للشرع”. واستشهد العبيدي بقول العلامة الألباني يرحمه الله حيث قال: “لا يجوز تقديم بعض المفارش إلى المسجد يوم الجمعة أو غيرها قبل ذهابهم إلى المسجد”. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وأما ما يفعله كثير من الناس من تقديم مفارش إلى المسجد يوم الجمعة أو غيرها قبل ذهابهم إلى المسجد فهذا منهي عنه باتفاق المسلمين، بل محرم”. بل ذكر، والحديث للعبيدي، أن شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله أن الصلاة فى المكان المحجوز للعلماء فيها قولان من ناحية بطلانها وعدم قبولها. وقد ذكر السيوطي فى كتابه الحاوي قولا لابن الحاج فى (المدخل) ذكر فيه، أن من بسط الثوب وأخذ مكان غيره يعد غاصبا واستدل بالحديث: “من غصب شبرا من الأرض طُوقه يوم القيامة إلى سبع أرضين”. اختلاف الحال من جهة أخرى قال الشيخ محمد السعد إمام جامع أبي عبدالله الغفاري: “إن حكم حجز الأماكن في المساجد اختلف فيه العلماء، لكن الراجح من أقوال أهل العلم أنه يختلف باختلاف الحال، فعندما يحجز الإنسان المكان، وهو لم يأت أصلا إلى المسجد أو يحجزه لمدة طويلة، أو يوصي أحدهم بالحجز له في المسجد، فهذا لا يجوز؛ لأن فيه تعديا على حقوق آخرين، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوطن الرجل في المسجد، كما يتوطن البعير؛ لذا فالنهي عام عن أن يحتل هذا المصلي مكانا في الصف ثم يأتي بعد ذلك متأخرا، كما أن تأجير هذا المكان أو محاولة استغلاله فهو محرم قطعا؛ لأن هذا المؤجر لا يملك هذا المكان، فكيف يسوغ له أن يؤجره على غيره”. أما الصورة الثانية فقد أوضح الشيخ السعد، أن الحالة التي يجوز فيها الحجز، هي ما كان لمدة يسيرة، كأن يذهب الشخص إلى قضاء وقت قصير خارج المسجد، تحت أي ذريعة مشروعة، كذهابه إلى دورة المياه، فهذا يجوز بالاتفاق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم: “إذا قام الرجل من مجلسه، ثم رجع إليه فهو أحق به”. والأصل في هذا الأمر الإباحة.