خبر قرأته عشرات المرات، لكني ما تأملت عظمته كما صنعت البارحة، وهو أن خالد بن الوليد حين بلغه أمر العزل من إمارة الجيش، ما كان منه إلا أن استجاب بكل أريحية ليعود كأصغر جندي في جيش الفتوحات، وليقوم بدوره المناط به على أكمل وجه كما عمل حين قيادته له! وما جعلني أقلِّب النظر في هذه الحادثة ما كان من أحدهم ومثله كثير حين أحيل إلى التقاعد؛ فما كادت بضعة أيام تمر عليه حتى انقلبت حياته رأسا على عقب، فانزوى عن الناس، وظلَّلته غمامة الكآبة، وبلغ به الهمُّ مبلغه، هذا وهو الذي أحيل إلى التقاعد مكرما في حفل بهيج، مصحوبا بالقصائد الرنانة، فكيف به لو أنزل من أعلى الدرجات التي كان يعتليها إلى أسفل الدركات؟! أشك في قدرته على العيش بعدها! والذي يظهر لي أن تقبُّل أولئك الأفذاذ لأي تغير يحدث على وظائفهم ومكانتهم وعدم تشبثهم بالكراسي يعود إلى أمرين: أولهما أنهم يرون المنصب الوظيفي تكليفا لا تشريفا وأمانة ابتلوا بها، بل إن بعضهم ما إن يرشح لوظيفة ما حتى يلوذ بالفرار منها، والأمر الآخر أنهم أثناء توليهم مناصبهم يزاولون حياتهم كما كانت؛ فلم ينعزلوا عن أصدقائهم ومجتمعهم في أبراج عاجية.