تواجه الفكرة الليبرالية عسفا أيدلوجيا حادا في المرحلة الثقافية الراهنة، فهي كمفهوم تحمل أوجه تأويل متعددة يمكن لكثير من المثقفين حملها حسب مقاصدهم الفكرية، فمرونتها مغرية للاقتناع بها كسلاح فاعل في وجه أي قيود تضبط الإيقاع الفكري في الخريطة الذهنية للمثقف. وهذه الليبرالية لم تجد في الواقع مداخلات عميقة تهذب عيوبها أو تطورها كمشروع إنساني في السياق الفكري العام، ولذلك مال بها المفكرون كل الميل باتجاهات لا تخلو من التناقض والانفتاح المخل بتوجهاتها وحقيقتها التي تعرضت لكثير من التشويش. يميل عادل الحوشان إلى الاعتقاد بأن الليبرالية لم تخضع – لأسباب اجتماعية - لتشريح يمهد لفهمها: «فمشكلتها المحلية أنها نشأت في بيئة تتمتّع بتغذية «سُمّية»، بيئة شديدة المحافظة على مكتسباتها وتتعامل مع المفاهيم والمصطلحات وفق التغذية السمية لها، وهو ما حدث لتيار الحداثة الأدبية وبعدها مع العلمانية والآن مع الليبرالية». ويرى الحوشان أن الهجمة النقدية العنيفة التي تعرضت لها الليبرالية شوهت صورتها العامة: «وذلك حين تغلغل دم فاسد في المفاهيم عن طريق تيارات وماكينات ضخ، لديها تجربة في تشويه كل ما يتعارض مع فهمها، وأجزم أنه سوء الفهم أساء لنا كمجتمع قبل أن يسيء للمصطلحات». لكن النقد السريع والمستعجل الذي تعرضت له الليبرالية جاء من قبل خصومها، كما يقرر الدكتور عبدالرحمن الحبيب: «بينما الأهم أن يأتي من محايدين أو من داخلها، أي منا نحن الليبراليين، ويكون نقدا تشريحيا وتحليليا معمقا، وليس كما نلاحظ في كثير من الحالات هو مجرد اتهامات مجانية بالتكفير والتخوين والتغريب وتشكيك في النوايا، وهذا سبب الصورة المشوهة عنها». ولا يبدو الأمر مدهشا بالنسبة للدكتور الحبيب الذي ينظر إلى التشويه المتعمد الذي طرأ على مفهوم الليبرالية على أنه إجراء طبيعي قد يطول أي مفهوم أو مصطلح جديد يدخل إلى أي مجتمع: «خاصة من المتشددين في المحافظة والرافضين للتجديد والتطور، وهذا يجعل البيئة مهيأة لسوء الفهم. وفي حالتنا أرى أن النقد يأتي غالبا لخدمة أغراض أيديولوجية لتشويه الآخرين». ولا تختلف الليبرالية عن أي فلسفة نظرية سياسية أو اجتماعية أو ثقافية كبرى، كما يرى الدكتور حمد الباهلي الذي يرجع سوء الفهم الشعبي إلى «ما تتعرض له الليبرالية من غلاة التشدد والتطرف في وسائل الإعلام والمناشط الخاصة بهم»، مع أنه ينفي أن يكون المفهوم نفسه منبوذا على المستوى الشعبي: «فالشائع أن الناس ترفض الليبرالية، وهذه مخاوف لا دليل عليها، والزمن كفيل بكشف دعاوى مروجيها». ويعزو الحوشان تخوف الناس من الليبرالية إلى اضطراب في فهمها: «لأننا لم نفهم بعد أن الليبرالية كمنهج ليست شرا إلا إذا أراد أحد أن يفهمها على أنها شر، وهنا يأتي دور التعبئة»!. ورغم التشويه الذي ينال من فكرة الليبرالية، لا يرى الحبيب أن هناك «نبذا شعبيا» لها: «فتلك دعاية من خصومها، وليس هناك استفتاء يثبت هذه النظرية، مع أن كثيرا من الاستفتاءات التي أجريت حول قيادة المرأة ورياضة البنات في المدارس برهنت أن مسبة المؤيدين للطروحات الليبرالية تتعدى النصف في بعض الأحيان، إذن لا يوجد نبذ شعبي، بل هو وهم زرعه المحافظون». ويشير الباهلي إلى أن المسؤول عن تشويه صورة الليبراليين في الدرجة الأولى «هم المحافظون وبعض دعاة «الحياد» في الحراك الاجتماعي والفكري، مضافا إليهم كل ممارسي التعالي على «القضايا الصغيرة». ويقر الحوشان بأن الليبراليين متهمون بتسطيح قضايا الإصلاح وأسئلة النهضة، لأنهم يحصرون معاركهم الفكرية في قيادة المرأة والاختلاط، وهو ما يعترف به الحبيب الذي يرى أن الليبراليين ارتكبوا أخطاء بحق أفكارهم: «لدينا أخطاؤنا وبعضها كبير، ونحن لذلك في حاجة ماسة لنقد ذاتي جاد ناهيك عن ضرورة تقبل النقد من الآخرين أيا كان نوعه. فالنقد هو أهم عامل سيدعم ويصقل التيار الليبرالي إن كان له أن يستمر في التوسع». ويعترف الحوشان بأن أغلبية الليبراليين انشغلوا بالمعارك الصغيرة عن المشاريع الحضارية الكبرى التي يفترض أن تتبناها الليبرالية لتطوير المجتمع: «لكن الليبرالية عليها أن تنشغل بالفرد وحريته وعليها أن تراعي شروط الحياة وفق منهج يكفل له حق الاختيار والمشاركة والكرامة وضمان حق الحياة، من هنا لابد من وجود تفاصيل معيشية لا تعيب الدفاع عنها بصفتها حقوقا يجب الدفاع عنها داخل النظام الاجتماعي، هذا لا يعني ابتعادها عن تأسيس مناخ يكفل لها الدفاع عن قضاياها الحضارية التي لا يمكن فصلها عن حياة الفرد وحقوقه». لكن الباهلي يرى أن تركيز الليبراليين في مطالبهم الإصلاحية على الحقوق المباشرة، كقيادة المرأة والاختلاط، هو من باب ترتيب الأولويات «وفق درجة الألم، كمن يقدم معالجة الضرس المتألم على بقية الأضراس». ويؤكد الباهلي أن أسئلة النهضة «لها فرسانها الذين بدأ أولهم محمد حسن عواد في التمهيد لمن بعده لبزوغ الأسماء المعروفة بليبراليتها اليوم والتي تدافع عن ركائز النمو والتقدم والتنمية باستخدام الأدوات الليبرالية في نقدها للجمود الذي يعرقل كل أنواع الحركة المجتمعية، وذلك في سبيل حياة أرحب تحت ظل عقد اجتماعي واضح يحتكم إلى المواطنة كضمان لواجبات الناس وحقوقهم، إلا إذا زعم أحد أن عواد كان محافظا أو ينتمي إلى التيار الديني». ويستدل الحبيب على حيوية الفكر الليبرالي بنشاط مناصريه الذين يتناولون في مقالاتهم وكتبهم قضايا الإصلاح في التعليم والقضاء والاقتصاد: «فنظرة سريعة إلى ما تنشره وسائل الإعلام، ستثبت أننا أكثر من يتناول قضايا حقوق الإنسان وحقوق المرأة، وتلك واحدة من قضايانا وليست شغلنا الشاغل، بل معارضتها هي الشغل الشاغل لخصوم التطور، أما الاختلاط فهو ليس قضية ثانوية أو صغيرة بل هو قضية كبرى بلا حراك»