كلمات بسيطة عبر عنها الشاب محمد الشهري، الذي اعتبرها الحقيقة التي يعيشها الواقع السعودي مع اقتراب ذلك اليوم. لكن ما لا يقتنع به هذا الشاب أن تبقى الإجراءات رهينة الحدث: «إذا كان يوم الفالنتاين كما يقولون وكما يؤمن بها غالبيتنا بدعة مستوردة، فهل ترى يجب أن نكتفي بتسليط الضوء عليها يوما ما، وتعود في اليوم الآخر إلى العلن، وهل الحب الذي ينفجر يوما لا يعود في اليوم الآخر ليحتل قلوب العشاق، وهل الحب جريمة، أم أن التعاطي معه جريمة، أم أن صور التعاطي معه جريمة، أم أنه يفترض أن تخصص الحرب ضد الفالنتاين في صورة العشق غير الشرعي، وليس لمفهوم آخر؟». صورة بيضاء على الملأ، لم تتغير الصورة البيضاء عشية الفالنتاين، الجميع يعرف مقدما أن «الأحمر ممنوع، وكل ما اقترب من هذا اللون ممنوع» والالتزام سمة المكان، ولكن.. جولة «شمس» عشية الاحتفال بيوم الحب المزعوم، برهنت على التزام الجميع، لكن الخرق في الخفاء، ما وراء الكواليس، والأسعار مبالغ فيها، والتوصيل إلى المنازل من الأبواب الخلفية سمة المتحايلين على النظام. اختبار الفالنتاين في اليوم المحدد 14 فبراير، أردنا تجاوز الأمر، والتعرف على ملامح المجتمع، واختلاف طباعه في هذا التوقيت، والسؤال الأبرز هل يا ترى تتغير المفاهيم بالفالنتاين يوما بعد يوم، وعاما بعد آخر، أم أنها نفس المفاهيم، وذات الطباع التي لا تتغير، ونفس التعامل الذي يجب أن تواجه به المخالفات والخروج عما يجب الالتزام به؟ عقدنا النية على التعاطي «الزائف» مع الفالنتاين، شكلا ومضمونا، لنجرب ماذا يدور في كواليس الشوارع والمولات، هل هناك من يحبون التعامل مع هذا اللون في هذا اليوم، أم أن الكل يتفق على حب اللون في كل الأيام عدا ذلك اليوم، انسجاما مع التحفظات الشرعية، وتكريسا للمقومات الدينية؟ ارتدينا الأحمر «علانية» في وضح النهار، وحملنا ورة حمراء توحي بالقدرة على التعاطي مع الأشياء، وخرجنا إلى العلن، لا نتحدى أحدا، لكننا نقيس جرأة أفراد على التمسك بما يرون، وبما يؤمنون. حملنا بحوزتنا ورقة وهوية، استصدرناها من الجهات المختصة في صحيفتنا، أبلغناهم بالتدخل العاجل إن تأزم الموقف، أقنعناهم أننا نعرف أن التعامل ربما ارتقى سريعا إلى ما وراء الأبواب المغلقة على هيئة التحقيق والادعاء العام: «أرجوكم لا تتأخروا، الرسالة جاهزة في الجوال، بمجرد توقيفنا مررناها لكم، لتأتوا في الحال». في الرابعة عصر يوم الاثنين، تهيأت لهذا اليوم، خرجت باللون الأحمر من منزلي، وعلى البوابة وبجوار سيارتي، كان المؤذن يؤذن لصلاة العصر وقتها، والأقدام تتسارع إلى المساجد، والألسنة تلهج بالتسبيح ووجوه الملتزمين تشع بالإيمان، وفجأة استرق أربعة من الملتزمين النظر، فانعكس اللون الأحمر على واقعهم، فتغيرت الوجوه، واصطبغت باللون الأحمر ليس من شدة الخجل، ولكن من شدة الضيق: «لا حول ولا قوة إلا بالله»، سمعتها من دواخلهم، قبل أن تتلقفها مسامعي من أفواههم. لم أشعر إلا بالزجر: «ما هذا يا شيخ؟». حاولت التمرد على ما يقصدونه بالتغابي أحيانا، واستبدال الواقع بآخر خيالي بالتلفت يمنة ويسرة في أحيان أخرى، لكنهم لاحقوني سريعا، عندها اعتقدت أنهم من رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، خاصة أنهم مجتمعون، الأمر الذي يوحي بأنهم رجال حسبة الذين طالما كانت تحركاتهم بصيغة الجماعة: «ما تفعله الآن خطأ عظيم، وهذا اللون الأحمر لا يعني إلا انسياقك وراء التوجه الخطأ، ذلك تشبه بالكفار، وهو أمر لا يجوز شرعا، غير الملابس، وارتد الزي الوطني أو ارتد ما تريد، لكن لا تتعامل مع الفلنتاين على أنه أمر واقع، يريد أن يغزو المجتمعات المسلمة، هل تتوقع أن يضحي الكفار في عيد الأضحى، لتبادلهم الخواطر في أعيادهم». أدركت وقتها أنني في حاجة للتداخل مع حديثهم، في وقت بدا عليهم النية أنهم لن ينصرفوا إلا إذا خلعت القميص الأحمر: «لا يضحون في العاشر من ذي الحجة؛ لأنه معتقد ديني يخالف معتقداتهم، لكن الفالنتاين ليس معتقدا دينيا، بل ربما كان مظهرا عاما، ولا يعني إلا تعبيرا على الحب لمن تحب، ووفق القواعد المعروفة شرعا. انتهيت، فواصلوا بصيغة احتجاج أكثر ضراوة: «نقولك حرام تقولي حلال، أنت ما مسلم؟». سؤال دفعني لاعتراض الحديث، والتحول فجأة لنفس صيغة الضراوة، متمسكا بقاعدة نيوتن الشهيرة «لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار، ومضاد له في الاتجاه»، فرددت على مسامعهم السؤال المعتاد: «أنتم هيئة، ولا متهيئين؟». فردوا بسؤال يبحث عن الفارق بين المعنيين: «لو هيئة جادلتكم، ولو متهيئين رفضت الحديث معكم». الاتجاه السريع استقللت سيارتي، ووجهتي شارع «شانزلزيه الرياض»، أو التحلية، فالمظاهر حتما ستتغير هناك، والكل سيرفع شعار الفالنتاين، فهو الشارع الذي تتربع فيه الخواطر على اختلافها، دون أن يحسمها اتجاه لصالحه ضد آخر. هناك أوقفت السيارة بجوار المقهى الشهير، وترجلت، لتأتي الهمسات من خلفي، توقفت واستدرت، لأرصد ما يمكن أن يرى ولا يقال، ويشاهد ولا يوصف، لكن ما يمكن تمريره أنني تعرضت لانتهاكات من نوع آخر، والسبب الفالنتاين. تحملت ما قيل ويقال، وصممت على الاستمرار في المهمة الصعبة، علني أصل إلى إجابة واضحة حول حقيقة الاحتفال بعيد الحب في شوارع الرياض. والحق يقال لم ألحظ زيا مصبوغا بالأحمر غيري، ولم أر ما يمكن أن يثير التحفظات غيري، فأنا الوحيد الذي يتلون بهذا اللون في تلك الساعة وذاك اليوم. سألت نفسي أين شباب الفالنتاين؟ فلم أجد الجواب إلا من الفلبيني الذي اعتاد على تقديم القهوة لي يوميا: «صديق ما في نفر يجي اليوم بأحمر، الكل خوف شديد». لكنني رأيت الأحمر داخل كافتيريا أخرى مجاورة اعتاد طاقمها الخدمي ارتداء الأحمر في صورة زي موحد، وليس مقبولا أن يغيروه في هذا اليوم، فبادرت بسؤال الفلبيني حول ما إذا كانت الهيئة باشرت الموقف اليوم في الشارع الشهير، فلم يتردد: «مطوع ما في اليوم». أدركت أن التراجع في المظاهر ربما كان وراء تراجع تواجد رجال الهيئة، فلا داعي لتكثيف التواجد طالما الشارع ملتزم بما تم الاتفاق عليه ولو ضمنيا. رفض شعبي وبعد دقائق معدودات من الجلوس على القهوة، لاحظت الاختلاف بين واقعي وواقعهم: «كنت أحسب أنهم ربما يتفاعلون إيجابا مع جرأتي الواقعية في يوم 14 فبراير»، هكذا حدثتني نفسي، لكنني عرفت أنهم لم يستاؤوا من تلك الجرأة أكثر مما استاؤوا من ذلك التفاعل مع هذا اليوم. باغتني أحدهم، ولم يكن يحمل أي مظاهر للتدين كالتي يتعارف عليها الكثير في المجتمع، الذي يرى أن الالتزام لن يكون إلا بلحية، عندها أدركت أنهم شباب التحلية من طريقة الزي الذي يرتدونه، حتى المشروبات التي تروق لهم وتقدمها تلك القهوة، فالمتعارف أيضا أنه لا معنى للمشروبات الأجنبية للمطوعين «هكذا نحسب إن كنا على خطأ من عدم قياس الأمر وفق رؤى دقيقة». ماذا يريدون؟ سألت نفسي، واستنكرت في داخلي أن يبادر شباب التحلية لهجاء من يفترض أن يعبر عن واقعهم، ليتطور الأمر سريعا إلى همسات ربما طالت أسماعي بعضها، لأفهم مدلولها: «ما يستحي، والله ما عنده أخلاق ولا ضمير، والله شكله بلا عقل»، كلها جمل ربما جاءتني في صورة غير مترابطة، لكنها ارتبطت برد الفعل من هؤلاء الشباب، لتترجم لي الرفض الشعبي ليوم الفالنتاين. فضلت قياس رأي الشارع الشهير عبر معدلات أخرى، بعيدا عن ذاك المقهى الشهير، لأصول وأجول دون أن أرى إلا نفسي بالزي الأحمر، بل حاول آخرون التضييق علي خلال مروري في الشارع، كلهم سعوديون ومن الشباب «الفاخر»، حسبما يصفهم شباب القرى النائية البعيدة عن العاصمة. لكن على الطرف الآخر، كانت ترفع من روحي المعنوية، في ظل تقمصي شخصية مناصري الفالنتاين، تلك النظرات التي تشع بريقا وتأييدا لما أفعله، لكنها من فئة المقيمين، خاصة الآسيويين، إلى الدرجة التي بادرني أحدهم بالمقولة الشهيرة في هذا اليوم «هابي فالنتاين دي»، رغم أنه لم يكن يرتدي لونا، يقترب من قريب أو بعيد للون الأحمر، أو الأرجواني أو القوقازي أو شيء يدخل فيه حرف من حروف الأحمر، عندها تأكدت أنهم يعيشون فالنتاين ولو بلون رمادي! ليلة العيد حان المساء، فتوقعت أن يغمر الشارع فيض أحمر من أنصار الفالنتاين الذين ربما أغراهم ظلام الليل بالتسلل إلى ردهات الشارع، ليعيشوا ولا يرصدهم أحد، وتوقعت أيضا أنه ربما تتداخل مع ذلك الفيض أمواج بيضاء، ليست إلا سيارات الهيئة الجديدة التي تبرهن للعيان أن النقاوة في كلمات الاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن خابت توقعاتي، لا فيض ولا موج! عدلت دفة المسيرة، لا حل لي إلا بالتوجه صوب ذلك الموقع الشهير، «مول...»، فيه تتبارى الألوان، وحتما سأجد الأنصار ممن يبالغون في ارتداء ما أريد تصويره. على البوابة، تقدمت بخطواتي، فإذا بخطوات حراس الأمن بالمرصاد، منعوني بصيغة الممنوع، فأخطرتهم أن اليوم ليس مختصا بالعائلات، فلم المنع، فلم أجد إجابة سوى بصيغة «اللبيب بالإشارة يفهم»، فتراجعت حيث مجمع تجاري آخر، ووجدت نفس النتيجة، وكأنهم اتفقوا على شيء واحد مفاده «لا صوت يعلو على صوت المنع». عدت أدراجي، وبدأت أبحث في قائمة ذاكرتي عن المجمع الذي ربما كان أكثر تساهلا في دخول العزاب في يوم العائلات، فهو الوحيد الذي يمكنني أن أنفذ من خلاله على الداخل، لكن في هذا التوقيت الذي كان تحديدا في الثامنة مساء، بعد صلاة العشاء، بدأت أتجول مجددا في شارع التحلية، خوفا من أن يفوتني ما أريد، فكان ما نريد! شوق ولقاء انتشر المطوعون، تقاطروا من كل موقع، بحثت عن سيارات رسمية تدل على أنهم هيئة، فلم أجد، فأدركت أنهم محتسبون، جالوا وصالوا ولم يوقفوا أحدا أو يتحدثوا مع أحد، همهم الأول والأخير توزيع أكبر قدر مما في حوزتهم من أسطوانات دينية منوعة، وصلتني منها أسطوانة حملت عنوان «شوق ولقاء» أعترف بأنني لم أستمع لها كاملة، لكنني فهمت المغزى، وإن لم أفهم معنى تلك العناوين الرنانة التي حملتها أسماء الأسطوانات، من شوق ومحبة وغيرها، لكن كما يقال «كل يبكي على ليلاه». تكدس المرور في الشارع، والجميع اعتقد أن المطوعين يوقفون أنصار الأحمر، في ظل انتشارهم بين السيارات، لتفاجئهم الحقيقة بأنهم مجرد محتسبين لا ينتمون للهيئة من قريب أو بعيد، خاصة أن المسؤول الأول عنها لطالما شدد على أنه لا حاجة للاستعانة بالمحتسبين في تصريح سابق شهير. عندها كان التعامل اعتياديا، فلا يتجاوز تناول الأسطوانة، التي لم ترفضها الغالبية، ولا يملك أحد أن يجيب على السؤال المهم: «أين تذهب الأسطوانة؟». ضيافة الهيئة في التاسعة مساء، غادرت التحلية باتجاه المول الشهير الذي خططت لرحلتي معه، لقضاء سهرة فالنتاين بداخله. هناك تمكنت من الدخول، ربما بغض الطرف من بعض حراس الأمن، وربما بحيلة وربما بأشياء أخرى، لكن في الداخل لم يكن ما يميز، فلا زحام معهود، ولا سترات حمراء تزين المارة، من الجنسين، فالكل وكأنما تحسبوا من الاعتراض أو التدخل من رجال الهيئة، حتى المحال التجارية في الداخل تخلصت من اللون الأحمر، بما في ذلك الملابس؛ ما يعكس تفاعل الجميع بشكل إيجابي مع التحذيرات التي سبقت 14 فبراير، وإن لم تكن في صيغة رسمية، لكن ما حصل فاق التوقعات. شجاعة وجرأة استغرب أحد الباعة ما اعتبرها جرأة في تخطي الحواجز باللون الأحمر، فلم أكشف له هويتي الحقيقية، لكنني ما أن لاحظت دخول رجال الهيئة للمجمع، حتى ركضت نحوهم، محاولا التحرش بهم، تنقلا يمنة ويسرة، شاهدني أحدهم بداية، وسرعان ما شاهدني الجميع، لكنهم لم يتطفلوا علي، اقتربت أكثر، وتعمدت إمعان النظر لهم، ويبدو أنهم أداروا وجوههم إلى حيث لا أعرف. لم أصدق نفسي أهؤلاء رجال الهيئة أم ماذا، لكنني تأكدت أنهم ليسوا ماذا، ليتسرب السؤال الأبرز: «إذن لماذا..؟». سارعت الخطى لأرافقهم في رحلة الخروج من المجمع، وكما يقولون «كتفا بكتف»، لأسجل رد الفعل، ولكنني لم أسجل شيئا من رجال الهيئة الرسميين نحوي، لم يتفوه أي منهم بكلمة، أو يمطرني بنظرة لوم أو عتاب، لتنتهي المهمة بلا توقيف. سألت نفسي السؤال الأخير: «هل تساقط يوم الفالنتاين من ذاكرة الهيئة، أم زاغت عنه الأبصار؟»