أكد المفكر الدكتور زيد بن علي الفضيل صعوبة تحديد مشكلة بعينها حين تقيم أي تحول اجتماعي ضمن إطار أي مجتمع، خاصة حين يتسم ذلك التحول بالتباين والتنافر البارز. وأشار إلى أن الجانب الفكري والتطور الحياتي بشكل عام يمكن اعتبارهما من أكبر المشاكل الأكثر تعقيدا حين قراءة وتحليل أي تحول اجتماعي معيش. وأوضح الفضيل أن أخطر ما واجهته المجتمعات خلال الفترة الماضية كامن في اتساع الفجوة بين التطور الحتمي المفروض على المجتمع وطبيعة وشكل هويته التراثية والدينية في أوسع أشكالها وأبسط صورها، كالحال الذي نواجهه اليوم في مسائل اجتماعية وحياتية هي من طبيعة وصيرورة أي تحول اجتماعي، كالتوسع في عمل المرأة مثلا، حيث يفرض نمط الحياة الاجتماعية المعاصرة، وتطور التعليم المتطور، وجود المرأة بكينونتها العملية في عديد من المواقع الإدارية، وهو ما شكل عقدة لدى عديد من المجتمعات التي لم تعمل على تقليص الفجوة بين آليات التفكير التراثي والديني التقليدي والتطور الحتمي المعيش.. ومعه كان هذا الحوار. كيف تتابع مسارات التحول الاجتماعي، في ضوء ما يفرضه التشكيل الثقافي للمجتمع من معايير مهنية في تحديد هويته؟ في واقع الحال نحن أمام مفهومين يحتاج كل منهما إلى شرح وتحديد دقيق للمصطلح، ودراسة تأملية تحليلية، حيث يتعلق المفهوم الأول منهما بموضوع لا يزال ملتبسا في أذهان الكثير من المتعاطين مع الشأن الفكري بوجه عام، وهو طبيعة وشكل الهوية التي ننشدها، ومدى تعرضها للتغيير وفقا لخاصية التأثير والتأثر، فيما يتعلق المفهوم الثاني بطبيعة التحول الاجتماعي ومدى تناغم ذلك مع حالة التغيير السائد في المفهوم الأول، وهو أيضا مفهوم يحتاج منا إلى تحديد أكثر دقة لمعناه وغاياته. وفي تصوري أن أي تغيير متناغم بين مفهوم الهوية، ومفهوم التحول الاجتماعي سيؤدي إلى ولادة مجتمع متصالح مع نفسه وتوجهاته المستقبلية، لكن حين يحدث التباين بين المفهومين، فإن ملامح الكارثة والتفكك والشعور بعدم الثقة والاتزان هو الغالب على طبيعة الحراك ضمن آفاق أي مجتمع. حالة متشنجة وهل يختلف الأمر إسقاطا على مجتمعنا السعودي؟ نعم يختلف الأمر في إطار مجتمعنا السعودي المحلي بوجه عام، حيث يصعب الحكم عليه بمقياس واحد، لاختلاف التوجهات وتغير المؤثرات من منطقة لأخرى، ومن بيئة لأخرى، فمثلا قد نشهد حالة من الاستقرار المُثلى بين طبيعة وشكل الهوية في المجتمع القروي وطبيعة وشكل أي تحول اجتماعي مرتقب، في حين قد نلحظ بوادر تباين واضح بين طبيعة وشكل الهوية في إطار المجتمع المدني مع حالة التحول الاجتماعي المفروض على تكوينات المجتمع المتنوعة، بحكم ما يصاحبها من تمدد أسري له أبعاده المختلفة، وبحكم ما سيواجهه المجتمع من انفتاح ثقافي واجتماعي غير مدرك، ولتوضيح ذلك يمكننا الإشارة مثلا إلى أن نمط تكوين البناء الفكري والحياتي لأسرة مدنية سيختلف كليا مع مثيلتها في المجتمع القروي، حيث ستفرض حالة الانفتاح المفروض بحكم التمدد والتوسع الجغرافي، وبحكم الكثافة السكانية المتنوعة في الأعراق والانتماءات المعيشة، تطورا في شكل وطبيعة الهوية الاجتماعية والفكرية التي ينتمي إليها الفرد، حتى تجعل منه إنسانا قادرا على الحياة بتناغم سليم مع مختلف التحولات الاجتماعية المعيشة، لكن حين يتم التعامل بسلبية مع مختلف التحولات الاجتماعية المعيشة في الإطار المدني، من خلال تعزيز قيم الهوية بمفاهيم فكرية ماضوية تقليدية مثلا، فإن ذلك سيؤدي إلى حدوث الخلل المعبر عنه سالفا، وهو ما سيكون له نتائجه السلبية على تطور بناء أي مجتمع، وسيؤدي إلى وجود ما نعيشه من حالة متشنجة إزاء مختلف التطورات الاجتماعية والحياتية المعيشة. طاقات مهدرة كيف تستفيد المؤسسات الاجتماعية من الشباب؟ وهل نجحت في استقطابهم لبرامجها؟ في تصوري، أن كثيرا من طاقات شبابنا ما زالت مهدرة حتى الوقت الراهن، وذلك لاعتبارات عدة، منها ما هو متعلق بطبيعة تنشئة أبنائنا وبناتنا، التي قامت في جانب منها على الرعاية الكلية النابعة من محبة مفرطة وخوف غير مبرر إلى الدرجة التي أدت إلى حرمانهم من أي مشاركة فاعلة، خاصة فيما يتعلق بشريحة الإناث على وجه التحديد، ما أفقدهم المقدرة بعد ذلك على التفاعل الإيجابي مع مختلف النشاطات الاجتماعية، ومنها ما هو متعلق بطبيعة الذهنية المشكلة والمحركة لثنايا مجتمعنا على وجه الخصوص، التي تنظر إلى بعض الأعمال بعين السخط والرفض، فيؤدي ذلك إلى إحجام فصيل كبير من الشباب على مستوى الجنسين عن المشاركة في مختلف تلك الأعمال التطوعية والنشاطات الاجتماعية، ومنها ما هو متعلق بحالة القصور الفعلي للعديد من مؤسساتنا الاجتماعية عن إيجاد البرامج المناسبة من جهة، وتسويقها إعلانيا من جهة أخرى، وفي تصوري فإننا كمجتمع ومن ثم كمؤسسات نحتاج بداية إلى أن نتحرر من مختلف القيود الذهنية السلبية المعوقة، كما نحتاج إلى إيجاد البرامج المتنوعة المناسبة، وتسويقها من ثم بشكل مناسب. مراكز الأحياء كيف ترسم خريطة لاستيعاب الشباب وتطوير فكرهم الاجتماعي؟ تبدأ أولى حلقات هذا الرسم المنهجي من المدرسة التي يجب أن تكثف نشاطاتها الاجتماعية في نطاق مراكز الأحياء، التي بدورها يجب أن توجد البرامج التطوعية المناسبة ضمن إطار الحي، للاستفادة من طاقات أبنائنا المهدرة من جهة، وتدريبهم على المشاركة الإيجابية في المجتمع من جهة أخرى، وبشرط ألا تقتصر تلك النشاطات على جانب محدد كأعمال الخدمة في المساجد مثلا، وفئة معينة من الجنسين بالتركيز على جانب الذكور دون الإناث، وصولا إلى تكثيف الجهد الاجتماعي والنشاط التطوعي في مرحلة الجامعة، وربط ذلك بالمعدل التراكمي حتى يكون له فعله المطلوب كساعات عمل ضمن متطلبات الجامعة، يجب على الطالب والطالبة استيفاؤها إما عبر برامج الجامعة المتخصصة، أو من خلال الانضمام لمؤسسات متخصصة في العمل الاجتماعي والنشاط التطوعي، على شرط أن يكون ذلك تحت إشراف أكاديمي، وحين استيفاء هذين الأمرين ستتحقق تنشئة جيل من الشباب يحمل فكرا متطورا حول مختلف الأعمال التطوعية، ولديه القابلية الذهنية والنفسية لأي تحول اجتماعي منشود. فكر الشباب وهل تؤدي مؤسسات التعليم العالي دورها في النهوض بفكر الشباب والارتقاء بقدراتهم الذاتية؟ حتى الآن، الأمر ما زال مقتصرا على الجانب الأكاديمي وحسب، حيث لا توجد اتحادات طلابية متنوعة، ولا يوجد تفعيل لأي نشاط تطوعي اجتماعي، ولا يوجد حراك فكري ملموس داخل أروقة ودهاليز جامعاتنا، وهو ما يجعلها شبيهة من حيث الجوهر بمدارس التعليم العام، حيث لا نرى وجودا بارزا وحقيقيا لإرادة الشباب. الحالة الشعبوية ما الخطأ في القراءة المعاصرة؟ وما سبب ذلك؟ بداية أحب أن أشير إلى أن الطباعة تمثل أهم الاكتشافات العلمية، لدورها في توسيع دائرة المعرفة بين أفراد المجتمع، بحيث ساهمت في انتقال الحالة الثقافية من حالتها النخبوية إلى حالتها الشعبوية، من خلال توسيع دائرة وجود الكتاب المطبوع ورخص ثمنه في مقابل الكتاب المخطوط، ومع مرور الزمن ساهم ذلك في تكوين حالة جديدة من المجتمع المعرفي ضمن إطار المجتمعات الغربية على وجه العموم، وبعض أجزاء مجتمعنا العربي على وجه الخصوص، بحيث تحرر المفهوم في تلك الأماكن من قيوده الأيدلوجية، لتصبح القراءة فنا حرا في حد ذاتها، يَعمد شريحة كبيرة من أفراد المجتمع إلى الاستمتاع بها، ودون أن يكون لذلك أي هدف محدد كالقراءة المدرسية، أو القراءة الدينية، وما إلى ذلك. من هنا يمكن القول إن الالتزام بأطر القراءة المحددة التي تستهدف تحقيق أمر ما، كان ولا يزال من أكبر العوائق لانتشار ثقافة القراءة بين أطياف المجتمع، لإمكانية انتهاء الاهتمام بالقراءة مع انتهاء الدافع، وهو ما نعيشه ضمن إطار مجتمعنا ونلحظه بوضوح، ولا شك فإن من أسباب ذلك ما يمكن إرجاعه إلى اهتمامنا الكلي بجانب من موروثنا الفكري الذي يقوم على المناظرات الفكرية والجدال الفقهي والنقاش العقائدي الساخن، وإهمالنا بالتالي لكثير من الجوانب الإبداعية فيه، وتقليلنا لأهميته ضمن إطار ذهنيتنا المتلقية على اعتبار أنها مما يشغل ولا ينفع، فكان من جراء ذلك أن ضَعُفَ الاهتمام بكتب الموسوعات الأدبية والثقافية المتنوعة، ككتاب العقد الفريد لابن عبد ربه، وكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، وغيرها، وهو ما كان له أثر سلبي على جانب اهتمامنا بفعل القراءة الحرة التي تستهدف الاستمتاع بالقراءة لذاتها، وليس لتحقيق مآرب بحثية، أو لتعزيز جوانب نقاشية، إلى آخر ذلك، الأمر الذي يدعونا إلى التفكير مليا في الأمر، والبدء بإيجاد الآليات المناسبة لتحرير القراءة من أي قيود فكرية، وأطر مُحَدَّدة، للوصول إلى مجتمع معرفي وإنسان مؤمن بأهمية ممارسة القراءة الحرة، وفي واقع الحال لن يتأتى ذلك بفاعلية مع غياب المؤسسات الثقافية الواعية العصرية من جهة، وغياب رؤية استراتيجية واضحة وشفافة نعمل من خلالها، ودون مواربة أو مجاملة. عزوف عن القراءة ما السبب الذي منع الشباب من القراءة؟ وما المحتوى الذي ينبغي أن نقدمه لهم أو يتجهون إليه بأنفسهم؟ القراءة قبل أن تصبح عملية ميكانيكية هي تطور ذهني، ونحن إلى الآن لم نعمد إلى بناء القاعدة الذهنية التي تُحفز الشباب على ممارسة الفعل القرائي، فنظامنا التعليمي لا سيما في الجوانب الفكرية، خاصة المتعلقة منها ببعض المفاهيم الدينية، لا يزال تعليما يرتكز على التلقين والحفظ دون إعمال التفكير والتأمل، الذي يقتضي ممارسة القراءة لتوسيع دوائر الفهم، وبالتالي فالمسألة قد تحولت إلى معلبات جاهزة يحفظها الطالب بحفظها دون أن يعمل ذهنه في فهمها، ما أوجد شبابا اتكاليا ينتظر الالتقاء بالمعلومة الجاهزة، وهو ما استمر معهم في النظام العالي عبر ما يعرف بالملخصات، هذا من جانب، ومن جانب آخر فنحن لم نربِّ أبناءنا على ممارسة القراءة الحرة غير المُهدَّفة، التي لا تحمل بعدا عقائديا، الذي يتحقق بقراءة كتب المعارف العامة، والروايات والقصص العالمي، بل تم النظر إليها من قبل بعضهم على أساس أنها من عوامل مَضيعة الوقت، في حين حوربت من قبل بعضهم الآخر لكونها من الكتب التي تدعو إلى تفسيخ ثقافة المجتمع، أو لكون مؤلفيها من المخالفين في التوجه العقائدي، وما شاهد منع كتاب الحيوان للجاحظ بحسب ما ذكره الشيخ حمد الجاسر في مذكراته «من سوانح الذكريات» إلا مثالا على ذلك، حيث يذكر أنه تم منع قراءة كتاب «الحيوان» للجاحظ في حصة المطالعة الحرة لكون كاتبه مخالفا في المعتقد، وتم الاستعاضة عنه بكتاب متخصص في الدين. أعتقد أن ذلك قلل من قيمة وأهمية القراءة، وجعلها تمثل عبئا على كثير من شبابنا، وزاد ذلك العبء خلال الحياة الجامعية التي تفتقر إلى برامج جيدة لتفعيل الذهنية القرائية بشكل إيجابي .