بين يدي الآن خبر يتحدث عن ضيق دار القضاء الألمانية من «إشغال القضاة بآلاف المحاكمات التي تستنزف أموال الدولة والشركات والمواطنين بسبب مبالغ مالية تافهة لا تتجاوز أحيانا 50 سنتا». «الشرق الأوسط». وإذا كانت قضايا بهذه السخافة تصل إلى محاكم بلاد لا تعتمد منهج مجانية التقاضي، فكم بالله تعتقدون أن قضايا أكثر تفاهة تشغل القضاة في بلادنا، لا سيما أن رفع قضية، مهما كان موضوعها، لا يتكلف هللة واحدة ولا يستلزم إلا تقديم عريضة يسطرها أقرب «كاتبحال» إلى بوابة المحكمة. أذكر أن من أعجب ما قرأت، دعوى تقدم بها مواطن يطالب فيها بإثبات نسب طفل أنجبته مطلقته بعد ثلاث سنوات من انفصالها عنه وارتباطها بآخر، مستندا إلى رؤيا أتته في المنام. «القضية في مدونة الأحكام القضائية». لكن هل أمسك أحد موظفي المحكمة بتلابيب الرجل «الحالم جدا»، واشأر له إلى باب المحكمة قائلا: «هذه محكمة محترمة يا حبيبي. لسنا متفرغين للفاضين من أمثالك. أنصحك بالتوجه مباشرة إلى محل سليب هاي وشراء مرتبة مريحة حتى لا تزعجك كوابيس كهذه مرة أخرى؟». كلا. أدرجت القضية في مواعيد أحد القضاة، وغالبا أنها استغرقت عشرات الجلسات وأجلت حسم عشرات القضايا المهمة والمستعجلة. وغني عن القول أن «طول فترة التقاضي»، واحدة من أكبر الانتقادات التي تطال القضاء السعودي. لا يمكن أبدا أن تحسم محكمة قضية، مهما بلغت بساطتها، في فترة قصيرة. ولا يمكن أبدا استثناء حتى المحاكم «المستعجلة» التي تختص بقضايا ما دون العشرين ألفا، من هذه الصفة الغالبة. ويبدو أن القوم فطنوا للأمر أخيرا، فغيروا مسماها إلى «الجزئية». يعزو كثيرون الأمر إلى معدل القضاة المحلي المنخفض «1 لكل 100 ألف نسمة»، فيما يبلغ المتوسط العالمي «1 لكل 3 آلاف نسمة». يفاقم حجم المشكلة «تعمد» بعض القضاة إطالة أمد القضايا نظرا لعدم القدرة على حسمها، وهو أمر مرده «عدم الأهلية للمنصب»، وفقا ل «شاهد من أهلها» هو نائب رئيس محاكم عسير السابق الشيخ إبراهيم الفقيه. قال الفقيه في تحقيق نشرته «شمس» ما نصه: «للأسف بعض القضاة لديهم ضعف شرعي. وتعاني بعض المحاكم ممن لديهم عدم قبول وإنجاز وسرعة أداء واحترام للخصوم وعدم فهم للقضية». الآن.. بإمكاننا أن نضيف عاملا ثالثا، إذ لا يمكن أن تكون محاكمنا أفضل حالا من نظيرتها الألمانية التي تشكو من إشغال قضاتها بالمحاكمات التافهة. ما هو الحل إذا؟. لا أعرف، غير أنني أتذكر برنامجا واقعيا كان يعرض على التلفاز يصور محكمة أمريكية «مستعجلة» تديرها قاضية اسمها شيري إذا لم تخني الذاكرة. في ساعة واحدة، هي مدة البرنامج، كانت شيري تنهي – على الواقف - عشر قضايا على الأقل من الجلسة الأولى. تخيلوا لو أن في كل محكمة قاضيا يؤدي دور شيري. هل كنا سنعاني من تكدس القضايا؟!