لا تزال قضايا المرأة في المنظومة الاجتماعية، تشكل هاجسا لكثير من المفكرين وكتاب الرأي والاجتماعيين، فالمرأة تبقى ضحية للعديد من التجاذبات، بعضها يرتبط بالوعي المجتمعي، وآخر بالوعي المستقبلي، وغير ذلك بالوعي المدني. الكاتب شتيوي الغيثي يرى أن المرأة ستظل على حالتها الراهنة ما لم يحدث تغيير في الوعي الذكوري. قال الغيثي ذلك كثيرا، آخرها ما رواه على فضائية العربية، فخرج بعدها الكثيرون يتهمونه بإعادة الحداثة من باب آخر، تناول القيم المجتمعية، بمجملها، لكنه يعرف أن هزيمة الكل ربما لا تروق للكل، لكنه تمسك بما يمكن وصفه تغيير اللحم، والإبقاء على اللحم. «شمس» تتعرف على آرائه من باب «الرأي الآخر» خاصة في المحور المجتمعي، وقضايا المرأة، بعيدا عن القناعات التي يمكن الاختلاف مع إحداها شكلا ومضمونا، ومع الأخرى شكلا، ومع الثالثة مضمونا، فيما ربما يتفق مع واحدة.. فإلى الحوار. - اتهمت المجتمع السعودي بالازدواجية في نظرته لكثير من القضايا، كيف يمكن أن تصوغ مصطلحا واضحا للمجتمع يجعله محل اتهام ومحاسبة؟ الازدواجية كانت سمة من سمات مجتمعات العالم العربي، وفي السعودية تزداد هذه الازدواجية لأنه مجتمع اعتاد الكتمان، وإظهار الوجه الحسن، في حين أن بعض تصرفاته تخالف العديد من توجهاته الفكرية، ومقولاته المثالية، ومن الصعب صياغة مصطلح واضح لتوصيف حالات المجتمعات؛ لأنها دائمة التغير لكن تبقى الازدواجية برأيي الصفة الأكثر تلازمية لمجتمعنا. - إقصاء المرأة في كثير من المجالات، هل بسبب فهم اجتماعي، أم سلوك فطري، وما المطلوب لتغيير المفاهيم الاجتماعية؟ من الناحية النظرية نحتاج إلى فك الارتباط بين القدسي والاجتماعي، والمشكلة أن الفهم الاجتماعي جاء متسقا مع بعض التفسيرات الدينية، رغم فطرية المجتمع خارج إطار تلك التفسيرات، وبما أنها تبقى تفسيرات، فإنها تظل غير قدسية، وتغليفها بالقدسية دائما، يجعل المجتمع يدور في إطار يظن أنه قدسي، في حين أنه يمارس فعلا اجتماعيا وتاريخيا، وإعادة كل شيء إلى وضعه الطبيعي هو الخطوة الأولى للتغيير، إلى جانب العمل المتواصل في تحديد ما هو ديني وما هو اجتماعي، والتصرف وفق هذه النظرة المتواصلة. - وكيف يتحقق ذلك؟ يتحقق من خلال العمل الكثير والكلام القليل، مشكلتنا أننا كثيرا ما نتحدث عن أن قضية المرأة جاءت نتيجة الفهم الاجتماعي، وحينما يقرر الكثيرون ذلك، فإن العمل يبقى أضعف بكثير من ذلك، عمل المرأة كاشيرة مثلا سبب قلقا اجتماعيا ودينيا، رغم وجود الكثير من الفتيات في المستشفيات والأسواق وَبَسْطَات الشوارع. المعارضة المغلفة بالديني ستكون لا محالة من قبل القوى التقليدية على أشدها، في أي مشروع يخص المرأة، لكن يبقى العمل على تحقيق التغيير في صالح المرأة مرتبطا بالعمل أكثر من ثرثرتنا الإعلامية عن حقوق المرأة. - هل تعتقد أن عمل المرأة يفك تشابك مشكلات المجتمع؟ لا أعتقد ذلك؛ فالمسألة أبعد من عمل المرأة إلى الرؤية للمرأة ذاتها، المرأة سواء عملت أم لم تعمل فإن النظرة الدونية تلاحقها، حتى عند أكثر العقول الثقافية تحررا، فالهيمنة الذكورية أبعد بكثير من كسرها البسيط أو الخدوش التي تلامس سطح العقلية الذكورية، بل إن عمل المرأة نفسه جاء بموافقة العقلية الذكورية، وبتمرير من العقل الذكوري نفسه؛ لذلك فستبقى الإشكاليات هي نفسها لكن بطرق مختلفة. - كيف نبلور فهما واسعا لاستحقاقات المرأة التنموية؟ الانتقال من النظرة للمرأة، من كونها امرأة إلى كونها إنسانة أولا، ثم امرأة ثانيا، وهذه الرؤية لن تتبلور ما لم يكن هناك ضامن حقوقي للمرأة بممارسة حياتها بتلك الرؤية التي ذكرناها، وفي غياب الضامن الحقوقي التي تستطيع المرأة من خلاله أن تستعيد حقها الكامل وتدافع عن نفسها من أكثر الناس قمعا لحريتها مهما كان حتى لو كان عائلها أو أباها، فإن استحقاقات المرأة التنموية ستبقى مشاريع اجتهادية فردية وتفضيلية من قبل الرجل. - هل ترى أن المجتمع متحول في ظل مفارقات معقدة ومتعددة؟ وكيف نتعاطى مع تلك التحولات؟ التعاطي مع التحولات قسري، أقصد أنه تعاط من النوع الذي لا خيار للمجتمع في قبوله أو رفضه؛ فالحداثة لا تستأذن في الدخول كما يقول بعض المفكرين، ولذلك فإن التعامل بطريقة الانكفاء على الذات ليس من صالح المجتمع؛ لأنه سيتحول إلى مجتمع ميت، والحياة متحولة، والمجتمعات بطبيعتها متحولة، لكن تحول اليوم يختلف عن تحول الأمس؛ فالأمس كان تحولا من الداخل واليوم صار تحولا من الخارج، أي أنه جاء من قيم الآخر وليس من قيم الذات، والمشترك الإنساني بين المجتمعات يجعل من هذه التحولات مقبولة، حتى لو لم تكن من قبل الذات، علينا أن ننظر إلى التحول بشكل طبيعي من غير خوف ولا تردد؛ لأنه سمة الحياة كلها وليست سمة مجتمع عن آخر. - وكيف يتم رصد تلك التحولات؟ رصد التحولات لا يأتي بيوم أو يومين، يحتاج إلى متابعة طويلة ومستمرة؛ لأن التحولات دائمة، فخلال أعوام قليلة تتحول أشياء كثيرة، كان تحول المجتمعات بسيطا يأخذ أعواما في الرصد، لكن التحول الحالي أسرع مما نتوقع، انفجار الاتصالات والإنترنت وشبكات التواصل مثيرة للجدل ومنفجرة انفجارا لم يتوقعه أحد، حتى على أولئك الذين يهتمون برصد تحولات المجتمعات، من علماء اجتماع ومفكرين. وشبكة «الفيس بوك» مثلا خلال أعوام قليلة جدا أوجدت تحولات خطيرة، وكشفت عن قدرة المجتمعات على التواصل حتى لو كانت منغلقة أو تحاول الانغلاق على ذاتها؛ ولذلك فرصدها يحتاج إلى قراءة متواصلة ومتابعة سريعة، بل أقول يومية، لمعرفة مدى ما وصل إليه المجتمع من تحول. - ثقافة الصحراء تظل إحدى الثقافات الإنسانية العريقة.. ما الخلل فيها؟ الخلل فيها أنها لم تستطع التعايش مع المدنية الحديثة، هناك فصل حاد بين قيم المدنية الحديثة وقيم الصحراء العتيقة، مع أنه سابقا لم تكن هناك مثل هذه الحدود الفاصلة، كانت قيم المدنية والصحراء متجاورتين إلى حد التداخل، الآن لم تعد قيم الصحراء الغالبة، بل قيم المدنية الحديثة، واستطاعت أن تغزو قيم الصحراء في داخلها، ولذلك تم قبول ما أنتجته المدنية من تطور تقني من غير قبول تطورها الفكري والإنساني؛ لذلك أقول إن ثقافة الصحراء لم تستطع التعايش مع القيم الحديثة. - إلى أي مدى انعكس ذلك على تعطيل تطور النظام الاجتماعي؟ الدور الذي قامت به هو أنها أرادت الانكفاء على الذات في ظل غزو القيم المدنية لها، وحينما أرادت أن تقبل من المدنية الحديثة شيئا فإنها استطاعت أن تجزئ المدنية إلى تقنيتها ونظامها للقيم، فقبلت الأولى (التقنية) ورفضت الثانية (القيم)، ومن هنا تعطل تطور النظام الاجتماعي الذي كان من المفترض أنه يسير بشكل طبيعي مع التطور الاجتماعي والفكري للحياة. - وهل تثق في تحرر المجتمع منها؟ هذا راجع إلى نوعية التحولات، فإن كانت من النوع الذي يدخل في بنية تكوين المجتمع الفكري والثقافي، فإن الثقة بذلك ستكون في محلها، أما إذا كانت شكلية أو سطحية التحول بمعنى أنها لم تلامس العمق الثقافي للمجتمع، فسيبقى تحرر المجتمع مرهونا بالقوى المحركة للمجتمع، وللأسف فإن هذه القوى تقليدية الطبع وتحولاتها شكلية؛ لذلك فمن هنا لا يمكن الجزم بتحول المجتمع في ظل المعطيات الحالية. - ما الذي يجعل المجتمع ساخرا وباحثا عن مفارقاته؟ سخرية المجتمع ناتجة من سخرية الحدث نفسه، والمفارقات ناتجة من الازدواجية التي تحدثنا عنها في بداية الحوار، هناك مفارقات عديدة جعلت هذا المجتمع باحثا عن سخرياته الخاصة كنوع من النقد للذات أو الكوميديا السوداء كما يقولون، يعرف المجتمع تناقضاته ويعرف ازدواجيته، ويحاول أن يجعل من هذه التناقضات نوعا من التفريغ الثقافي من خلال السخرية، فحينما يعجز عن فهم ذاته مباشرة يلجأ إلى التعبير عنها بطرق غير مباشرة. - ما مدى قناعتك بدور الشباب في تكوين فكرة نموذجية عن المجتمع؟ الشباب أهم فئة اجتماعية، وهي القادرة على التغيير الاجتماعي بكل صوره، فقط لنفتح الأبواب على مصراعيها، ونجعلهم أكثر فاعلية من غير أن نملي عليهم شروطنا الفكرية أو الاجتماعية أو الثقافية، أجزم أن العقلية الشبابية فاعلة وبجدارة، وتحتاج فقط إلى إعطائها الثقة الكاملة فيما تريد العمل عليه، لكن علينا ألا ننتظر أن تكون في صالحنا، بل ربما تكون النتائج في غير ما نتوقعها لصالح أخلاقياتنا السلوكية التقليدية، فهم يتجاوزون تلك النظرة إلى نظرة أكثر تحولا، وإذا كان هناك من تحول حقيقي في المجتمع فهو تحول ناتج من خلال الشباب الذين استطاعوا أن يكسروا الحدود التقليدية إلى حدود التواصل مع العالم. - ما الأدوات التي تنقص الشباب لتطوير أنفسهم وقدراتهم؟ لا أدوات تنقص الشباب، إنما المسألة تعود إلى مدى التوهج الذي لم يكن مصقولا بسبب مشكلات المجتمع التي صاروا هم ضحية لها فيما سبق، فقط تنقصهم الفرص التي تحتاج منا إلى فتح أبوابها لهم، أما الخبرة فسيستطيعون تداركها بسرعة، فقط نحتاج إلى منحهم ثقتنا كما قلت. - وهل قامت المؤسسات المعنية بهم بدورها في استيعابهم وتوجيههم نحو المستقبل؟ الشباب لديهم طاقة وحيوية أكبر بكثير من طاقة المؤسسات المعنية بهم، فتصبح عائقا لهم في الوقت الذي كان من المفترض أن تكون هي الراعية. - ما الذي يرجى من الشباب لتحقيق طفرة فكرية واجتماعية؟ الرجاء فيهم كبير جدا، بل هم المعول عليهم في تغيير البنى الفكرية والاجتماعية للمجتمع، غالبية المجتمع السعودي من الشباب وما يفعلونه في عالم شبكة الإنترنت أكبر من أن تستوعبه أفكار الأجيال السابقة عليهم، فتطلعاتهم المستقبلية تنم عن توجه جديد بدأ يتبلور في السياق الرافض للقيم المعهودة للمجتمع، التي لا تتناسب مع روح العصر، وليست الثوابت التي نعتز بها، الشباب وجدوا ضالتهم في صفحات الإنترنت والتواصل مع العالم والتواصل فيما بينهم، والمستقبل أمامهم بكل رحابته، لكن المشكلة ليست فيهم بقدر ما هي في القوى بأنواعها التي تريد أن تحد من انطلاقتهم، ومن يحاول رصد تحرك المجتمع، فمن الواضح لديه أن شباب اليوم أكثر تحديا للقيم التقليدية من شباب الأمس، وهذا بفضل انفتاحهم على العصر ومنجزاته التقنية التي فرضت قيما غير المعهودة، لذلك فمن الطبيعي أن تتغير البنى الفكرية والاجتماعية في عقولهم وفي عقول الآخرين، وإذا ما بقي الوضع على هذا التبلور، إذا لم ينحرف بسبب تدخل قوى خارج إطار الرؤية الشبابية للواقع وللعالم، كنوع من محاولات إعادة توهج الشباب إلى الحظيرة التقليدية، فإن المجتمع سيتغير في غضون أعوام قليلة ربما بأسرع مما كنا نتوقع .