في وقت بدأت المحاضرات التوعوية للمبتعثين التي تعتمد عليها وزارة التعليم العالي في تنوير الذاهبين إلى الخارج في رحلة العلم، يبقى عدم الوصول للمعنى الحقيقي لمثل تلك الملتقيات الهاجس الأكبر لآلاف المبتعثين والمبتعثات، الذين يعتقد بعضهم أن الملتقيات لم توجههم التوجيه الكافي ليتجنبوا المحظور، ويسيروا وفق المسموح. وفيما كانت خطى الابتعاث تتسارع يوما بعد يوم، حتى ارتقى العدد ليتعدى عشرات الألوف من الجنسين، بدت الخطوة الأولى للابتعاث في حاجة لتوقف، والسؤال البديهي كيف يبدأ المبتعث «سنة أولى ابتعاث»، في ظل عدم معرفة أبجديات اللغة من ناحية، وعدم إلمام بأبسط قواعد التعامل مع عالم لم يجرب السير فيه افتراضيا؟ وإذا كان هناك مبتعث يعترف بأنه التهم لحم الخنزير جهلا، وأن سلطات الهجرة في المطار أوشكت على إعادته لأنه لا يعرف مقومات اللغة، ولا محاور الحديث باللغات الأجنبية، فمن تراه يتحمل تلك الضغوطات، وهل الملتقيات مسؤولة عن أبسط الأشياء، وأدق التفاصيل، أم معنية بالعموميات، وما زاد يصبح من الأمور التي يجب أن يجتهد فيها المبتعث، لأنه وحسب المصادر: «ليس حريا تقديم أبسط الأشياء للمبتعثين». ويبقى السؤال الأبرز كيف يمكن الارتقاء بجوهر الملتقيات، ودرء أبسط المعوقات؟ «شمس» كعادتها، منحت الفرصة لمهمة خاصة تبحث في رحلة ابتعاث للمرة الأولى، لعلنا نصل إلى محاور يمكن العمل عليها من أجل تغيير مفهوم الابتعاث في فكر المبتعثين، ومدلول الابتعاث في فكر القائمين على الابتعاث. فكرة الابتعاث كان يراودني حلم الدراسة في الخارج منذ الصغر، وبدأت تكبر معي أحلامي، خصوصا بعدما التحقت بعمل حكومي لمدة خمسة أعوام، انتقلت بعدها للقطاع الخاص، مما ضاعف رغبتي في الابتعاث. فاتحت والدي بعزمي على الدراسة في الخارج، على نفقتي الخاصة، فلم يقف عقبة أمامي، ونصحني بالتروي ودراسة الأمر من ناحية اختيار البلد، والتخصص المطلوب، وبعد مشاورات واتصالات، عقدت العزم على كندا، عرفت أنها تتمتع بجودة تعليمية. جمعت أوراقي المطلوبة وأرسلتها للسفارة الكندية بالرياض، وبعد مضي 23 يوما، تلقيت مكالمة هاتفية من شركة البريد السريع، تدعوني لمراجعة المكتب للحصول على رسالة من السفارة الكندية، عندها استبشرت خيرا، وإن كان في داخلي الكثير من الهواجس خوفا من الفشل في الحصول على التأشيرة اللازمة، لكن سرعان ما تبددت تلك الهواجس، بعدما فتحت المظروف، ووجدت التأشيرة في جواز سفري. في اليوم التالي راجعت وزارة التعليم العالي للحصول على أمر إركاب، فتحصلت على تذكرة ذهاب، لتبدأ رحلة المغادرة، بالحجز على رحلة ترانزيت إلى فرانكفورت الألمانية، ومنها إلى فانكوفر الكندية. لم ترتعش دواخلي مطلقا، مثل أي شاب، يعتقد أنه وصل إلى مبتغاه، وكأن السفر نهاية الأمل، بل عندما أغلقت الطائرة أبوابها استعدادا للإقلاع من مطار الرياض، بدأت أسناني تنفرج، مثل الأطفال: «الآن سأحقق حلمي، وأرى ما لا يمكن أن يراه راكان زميلي، ولا التركي، ولا حتى سعد»، هكذا كنت أحدث نفسي، ولم أضع في الحسبان أي مخاطر أخرى. بعد ست ساعات من التعايش مع السحب، هبطت الكاسرة، حيث فرانكفورت، فيما كان معدل الانتظار المطلوب لمواصلة رحلتي الأخرى، أكثر من سبع ساعات. فكرت في تناول بعض المأكولات، سارعت إلى المطعم الموجود في المطار، في صالة الترانزيت، كنت مثل أي شاب لا يعرف من قاموس المأكولات غير الكبسة «لحم وأرز ودجاج»، واعتقدت أن العالم كله يتحدث بالمنطق نفسه، وعندما وصلت لم أر ولا حتى رأس تيس ولا قدم دجاجة ولو ورقية، وعندها جاءتني البشرى لوحة مطعم «ماكدونالدز»،عرفتها من ألوانها، فسارعت إليها لعلها تنقذني بما أعرفه مما لا أعرفه، لكن الكاشير بدأ في اللغط بالإنجليزية، ولم يعرف أنني «عربي للنخاع»، وأعتز بلغتي الأم، وأجيد التحدث بعدة لغات «أقصد لهجات»، منها الفرنسية مع حذف بعض الحروف أو كلها، لتتحول للهجة النجدية أو الحجازية، أو الألمانية بتغيير مقومات الحروف لتتحول للهجة القصيمية، وهكذا. أرحت نفسي بالاستعانة بقاموس «الصم والبكم»، فهو المنقذ وقت الأزمات «ولله الأمر من قبل ومن بعد»، عندها أدركت بعض المسؤولية، لكن نشوة الفرحة أو الانتصار لشبابي ربما غيبت عني تلك المعاناة. «أريد هذا وهذا»، بالطبع لم تكن تلك الجمل معبرة عن لغة الكلمات التي خاطبت بها نادل المطعم، لكنها وفق لغة الإشارة، وحسب ما هو مدون على لوحة الأسعار «المنيو». أعطاني ما اشتهت نفسي، فالتهمت أرجل الدجاج، وشهقت زفيرا لا يعرفه سواي، ولم ينته إلا بالجلوس على مقعدي في الرحلة المغادرة إلى كندا، حيث هناك تنفست الصعداء «جيتك يا كندا»، فرحة صغير يريد الارتماء في أحضان من يعرفه، لكنني لا أعرف كندا، ولا حتى فرانكفورت، بل الباحة والدمام وجدة وربما ينبع، فكيف العمل؟ لم أدع ضيق الأسئلة ينغص علي ساعات الاسترخاء الجميل التي بدأت في معايشتها، وأهملت كل شيء إلا الخلود للنوم، فنسيت وتناسيت البعثة، وحلمت بكندا ذات الوجه الصبوح، وكفى! وصول ومعاناة بعد وصولي إلى مطار فانكوفر في الثانية من بعد الظهر، حمدت الله أن الوصول نهارا لأستمتع بما أرى، لكنني ربما لم أحسب حساب ما لم أره. وقفت في «طابور» الجوازات والهجرة، استغرق وصولي للمختص نحو نصف الساعة، ووجدت نفسي وجها لوجه أمام من من المفترض أن يأذن لي بالدخول. تسلم مني جواز السفر، وبدأت الأعين ترقبني، فيما أرقب الحاسوب الذي يعمل عليه أحيانا، وتابوت خلفي في أحيان أخرى، ومرآة ضخمة تجعلك على اطلاع بملامح وجهك في أحيان ثانية، لكنني لم أر ملامح وجهي لانشغالي بملامح الآخرين. بدأ المختص في «اللغط»، ما فهمته أنني سعودي، طأطأت رأسي بانشراح، معلنا هويتي «سعودي طال عمرك». اعتقدت أنه يحتاج إلى بقية بطاقة صعود الطائرة، فأهديته إياها، بدءا من رحلة فرانكفورت وانتهاء برحلة فانكوفر، فلم يفحص أي منهما، وأعادها إلى شاكرا أو مستاء، لست أدري، لكنه أعاد بكلمات من صنع لسانه، وكما يقولون «ميد إن كندا». لكن سيل الكلمات معي، وأنا استرسل طأطأة، مثل حلقات «طاش ما طاش»، جعلتني أعرف استياءه مني، ثار الرجل، وبدأت الكلمات تنهمر، والجميع يفهم ما يعنيه، والنظرات ترقبني، عندها جلست على قارعة التوتر، لا أعرف ما الحيلة، هو يتحدث وأنا أتلعثم حتى بالرد بالعربية، وهزهزة الأكتاف بدأت تتطاول، على حد الأعناق. وجدت نفسي «مجبر أخاك لا بطل» خارج صف الدخول، استدعوا لي مترجمة، هبطت على أرض المطار بعد خمس ساعات انتظار، وبدأت تتحدث مع المختص، فعادت لغته للانفعال، لأسترد أنفاسي، وأنا أسمع كلمات أحسبها عربية من بعض رائحتها، سألتني عن القبول من الجامعة، فنفيت حملي لتلك الأوراق، لتخبره بما قلت، وتعود إلي بإجابة مصحوبة بابتسامة: «الموظف يقول إنك لا بد أن تعود من حيثما أتيت». صرخ جوفي «لا»، ودار في خلدي العودة بلا مكسب، سارعت في حثها على مساعدتي، باسترحام طول المسافة التي قطعتها، وعندها أوصلت رسالتي، ما جعلها تتحدث معه بمفردها، بأخذ ورد، دون تدخل مني. وبدأت في الانسحاب، وتودعني بجملة: «سيتأكدون من الأوراق إلكترونيا، عليك الانتظار». أخذت نفسا عميقا، وانتظرت، وبعد ساعة ونصف الساعة، نادوني باسمي، فوقفت، وعادت المترجمة لتبدأ رحلة الوساطة بيني والمختص، والتي انتهت بابتسامة عريضة، معلنة لي أنهم سيوافقون على دخولي، ولكن بسببها، عندها شكرتها، والموظف، وحتى «ماكدونالدز» الذي التهمت فيه وجبتي الوحيدة. تفتيش نجس انتابتني ضحكة، علقتها لحين المرور بعد استلام الحقائب، وهناك حبست ضحكتي، مروري على جهاز تلو آخر، حتى اعتقدت أنني في جوانتانامو المطار، وما ضاعف إحساسي تلك الكلاب التي «شمشمت» جسمي ضلعا ضلعا. خرجت من المطار، «سالما منجسا»، بألسنة الكلاب، وهمي البحث عن تراب لأبدد النجاسة، واعتقدت أنه سيكون أول سؤال أصفع به مستقبلي عن البوابة، لكنني لم أجد أحدا، فابتلعت السؤال. اتصلت بصديقي هاتفيا، لعله ينقذني من ورطة عدم المعرفة، فدعاني لركوب تاكسي، سيقودني إلى حيث السكن، لانشغاله بمحاضرة في الجامعة. لم تكن الشقة بعيدة عن المطار، فالمسافة لا تتجاوز 20 دقيقة، وفق العداد الكندي، على الرغم من غياب «ساهر»، وما إن وصلت حتى رحبوا بي بوجبة عشاء، وسمر، ثم انتهت الليلة، بنوم غير هادئ، وفي نفسي الكثير من الأسئلة. في الصباح اصطحبني صديقي إلى حيث الجامعة، لإنهاء إجراءاتي، فراجعنا المكتب الخاص بتسجيل الطلاب الجدد، وكالعادة تحدثوا بالإنجليزية، لكنني فضلت «لغة الصمت»، فتسلم مني صديقي جوازي وتصريح الدراسة، وأبلغوني بإمكانية المباشرة ابتداء من اليوم التالي. وجبة الضيافة وفيما انشغل زميلي بإنهاء الإجراءات، توجهت لمطعم الجامعة، لأتناول وجبة خفيفة، فلم أعرف من الطعام صنفا واحدا، ما جعلني أتخبط في الاختيار، عندها طالعت صورة وجبة شهية، فأشرت على النادل لتناولها، فاستجاب على الفور. كانت عبارة عن لحم مع السلطة الخضراء، ومن شدة جوعي التهمتها بشراهة، ليحضر صديقي قبل إكمال الوجبة، فدعوته لتناول مثلها: «ترى شهية»، فاستنكر الوجبة، وسارع بتوبيخي: «تعرف إيش تأكل أنت، هذا لحم خنزير!». ومع نهاية كلماته، أنهيت ما في جوفي في الحمام، عندها أدركت الحرج مع اللغة التي لا ترحم، وسألت نفسي كيف أعيش في مجتمع لا أعرف التعامل معه، وصارحت نفسي، كيف أتخرج من الثانوية العامة، بدرجة «صفر» في الإنجليزية، ثم أفضل الابتعاث، ولأنني لا أعرف الإجابة عن أي استفسار، تركت لزميلي الإجابة، عن سؤال واحد: «تعرف لي أحد يعلمني اللغة». فجاءت الإجابة بالإيجاب، عارضا لي أسرة كندية، نسق معها لأعيش معها، كأفضل الحلول وأسرعها في تعلم اللغة الإنجليزية. جدول الحصص كانت العائلة التي يفترض أن تحتضنني، مكونة من أب وأم وطفل، استقبلوني بصدر رحب، ما حفزني على الانشراح، ولو أنني لم أفهم ولا كلمة واحدة من عبارات الترحيب، غير كلمة «مرحبا». وفي صباح اليوم التالي، انتقلت للجامعة في أول يوم دراسة، فراجعت الموظفة المسؤولة فمنحتني جدول الحصص، ولا أعرف لماذا راودتني جملة «جدول الحصص» التي أمتعنا بها الفنان حسن مصطفى في مسرحية «مدرسة المشاغبين»، ربما لتشتبه الظروف، خصوصا بعدما سألتني الموظفة عن هويتي، فأهديتها جملة «الحمد لله»، اعتقادا أنها تستفسر مني عن صحتي، لكنني أعترف بأنني بت أقرب للتصميم عنه للفشل، خصوصا بعدما عرفت أن أكثر من 50 % من المبتعثين لكندا يقاسمونني الهم الأكبر، المتمثل في اللغة. عرفت داخل المحاضرة أن الغالبية من السعوديين أمثالي، لا تفهم ما يقال، ولا تعرف ماذا يدور في جنباتها، وعلى الرغم من البدء معنا في أساسيات اللغة، إلا أننا لم نفهم شيئا، فقررت وغيري كثر عدم الذهاب للجامعة مجددا، والبقاء حبيسي المنازل، حتى «يفعل الله أمرا كان مفعولا». وبعد ثلاثة أسابيع، هلت علينا دفعة جديدة من المبتعثين السعوديين، «وما زاد الطين بلة» أننا كنا نتحدث باللغة العربية، ونسينا أن الإنجليزية المطلب لسرعة تعلم اللغة، لتمر ثلاثة أشهر ونحن لا نعرف من اللغة غير اسمها، حتى بت وغيري نفقد الأمل في تعلم اللغة الإنجليزية. لتأتيني النصيحة من زميلي السعودي: «ابتعد عن الطلاب السعوديين»، فكرت في صفعه بوابل من التساؤلات، كيف ولماذا، لكنه سرعان ما فسر لي الأمر: «لن ينفعوك في تعلم اللغة، خصوصا الجدد، والأفضل الانتقال للعيش بعيدا عنهم». سألته: «وماذا عنهم؟»، فرد لي بأن من يريد اللغة عليه أن يلجأ لمصيرك نفسه. عدت لأسأله عن دور الملحقية في هذا الشأن، فجاءت الضحكة عالية: «ما عندك أحد» تنفيذ النصيحة أخذت بنصيحة قريبي، وأصبحت أتعرف على الطلاب الأجانب في الجامعة، ولكن دون جدوى، إذ يمازحونني، ولكنني لا أستطيع الرد عليهم، ومع مرور الأيام، أصبحت أفهم قليلا مما يقولون، لكنني عاجز عن الرد. باتت الدراسة الهم الأكبر لتعلم الإنجليزية، بواقع عشر ساعات يوميا، لمدة قاربت الثلاثة أشهر، لكن المعاناة من اللغة كانت محور النقاشات التي كانت تدور بين المبتعثين السعوديين الذين كنا نتقاسم جلسة في كافي في شارع روبسون. وما يضاعف المعاناة، تلك التلميحات من أن اللغة لن نستطيع إتقانها في فترة تتراوح بين 24-30 شهرا، ولكن لأن وزارة التعليم العالي حددت المدة بنحو 18 شهرا، كنا نشعر بالقلق. دخل الكثير من المبتعثين في عراك مع الزمن، باللجوء للمعاهد الخاصة لتعلم اللغة، فحصلت وغيري على ما يقارب درجة 4 في الايلتس «IELTS»، فيما كانت معظم الجامعات الكندية، تشترط الحصول على 6.5 على أقل تقدير، الأمر الذي يفقدنا الدخول والانتظام. قررت وغيري كثيرون إعادة التفكير، والعودة، فاستخرت الله تعالى، حتى تهيأ لي القبول في جامعة أمريكية، لا تشترط أكثر من 4 درجات في اللغة، فأنهيت رحلة كندا بسبب اللغة، وتركت الكثير من المبتعثين يطاردون هم ال 18 شهرا فقط التي تحددها الملحقية الثقافية في كندا، كحد أقصى لتعلم اللغة، والبدء في البرنامج الأكاديمي. عندها سألت نفسي، لماذا يهتمون في الملتقيات بالتحذيرات والتحريم والتجريم، فيما تغيب معالجة إشكاليات اللغة، لنجد أنفسنا في رحلة العودة للصفر .