في 24 يوليو الماضي، نطق الصم، وأعلنوها مدوية: «نتجرع صنوف المعاناة من اختلاف النبرات، فضلا عن غياب الكلمات، ونتقاسم صنوف الألم من سقوط القلم، فضلا عن كسره بعصا لا تعرف معنى العلم». في جنبات مبنى الجمعية السعودية للإعاقة السمعية، كانت سحابات الألم والمعاناة واضحة للعيان، لا تحتاج إلى من يزيح عنها الستار، ولا تتطلب أكثر من جرعة توقف لتنتهي العذابات. هناك لمن عاش المعاناة، وسط العالم الصامت، كانت الصرخة واحدة: «المجتمع عاجز عن حملنا، والمجتمع عاجز عن استيعابنا، والمجتمع عاجز عن محاورتنا». حتى الأسر لم تخل من الانتقاد ليست من أفواه من بكمت أفواههم، وصمتت آذانهم، لكن بإشارات يعرفون معناها، ويلمسون صداها، رئيسة القسم النسائي بالجمعية السعودية للإعاقة السمعية نورة المشاري سابقا اعترفت بأن: «مشكلة الصم تبدأ من المنزل، حيث إن الوالدين أو الأسرة لا تجيد التعامل مع الأصم، ما ينعكس سلبا على التربية والنشأة، من هنا لا بد من توعية الأسر بخطورة التصرف السلبي، كما أن معاناة الفتيات تمتد إلى بطالة أغلبهن، وعدم رغبة القطاعات الحكومية أو الأهلية دعمهن وتوظيفهن، ومن يقبل توظيفهن فيتم تحويلهن إلى أعمال خدمية أقل بكثير من إبداعاتهن». لكن ما غاب عن تصريحها، ولم يغب عن معرفتها، أن الأصم بات عملة غير مقبولة الصرف، والسبب الجهل الذي يحيط بالمعوق أو المعوقة بهذا الداء من كافة الأطراف: «المجتمع يجهل حقوقنا في الحياة، ويتجاهل تعليمنا، لنمارس خدمة ذاتنا، ونعمل على توفير القوت لأنفسنا، فيما لا يهتم بأمر الصرف علينا، لكننا نريد العلم لإنارة دروبنا، وبالعلم وحده تنطق أفواهنا الصامتة، ويسمع الآخرون صدى حديثنا، ونسمع وقع الكلمات التي تردنا». بالتعليم وحده نتقاذف الوظائف، ونستمتع بطعم الحياة، لكنهم بالجهل يدورون في حلقة مفرغة. ولعل معاناة الصم والبكم لم تكن في التعرف على أبجديات المعرفة أو نون والقلم، ولكن في التعليم الذي ينتهي بفأس أو قلم يوصل إلى كرسي توظيف، لا أن يجعلهم يديرون رؤوسهم إلى جدار البطالة التي لم تؤو آلاف الأصحاء، فضلا عن المعوقين. بداية النهاية بالأمس.. شهدت جدة حادثة التخلص من جهل الصم. وبالأمس.. أعلنتها فئة من المجتمع: «للأصم حقوق، يجب مراعاته، وآمال يجب العمل على تحقيقها، وتطلعات لا يجب هدمها، ومرتفعات يجب تقزيمها، وأسوار يجب تحطيمها». بن جنبات مركز نسما للتدريب في جدة، ترددت المعاني وقعا، وبدأت فعلا لا قولا، تبنتها الجمعية السعودية للإعاقة السمعية فرع منطقة مكةالمكرمة، وجندت لها شعارا يحمل المعاني السامية، ويحتوي الفئة الغالية: «بينا أصم». من أراد التراحم، عليه أن يعرف معنى الأصم، إنسان لا يحيى مثل الآخرين، لكن من حقه الحياة مثلهم، لذا كان التجاوب مواكبا لشهر الرحمة، عدد كبير من رجال الأعمال، وقيادات المجتمع، ومسؤولي القطاعات الحكومية والمؤسسات المجتمع المدني وممثلي وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمطبوعة. كلهم بصموا، واعترفوا على أن بيننا أصم، وجميعهم أقر بضرورة انتشال هؤلاء من براثن الجهل وعذابات التجاهل، والحل في: «حملة الوطنية لمحو أمية لغة الإشارة بمنطقة مكةالمكرمة». صوت الأصم في القاعة تردد صدى صوت مجموعة كبيرة من المصابين والمصابات بالصمم، التي قلنا في يوليو إنهم يحفظون عن ظهر قلب بيت الشعر «وظلم ذوي القربى أشد مضاضة»، وقالوا إن معاناتهم تبدأ من المنزل: «عندما تعجز الأسرة عن دمج ابنها أو ابنتها المصابة مع المجتمع أو مع محيط الأسرة، تبرز معاملة الأسرة الجافة والخالية من الحنان والعطف». وفي القاعة استردوا ذكريات المرارة التي حاولت فيها ثلاث فتيات من الصم قتل أنفسهن في جازان والمنطقة الشرقية، بعدما اعتقدن أن تصرفهن انتقاما من واقع مرير سببه أقرب الناس إليهن. وكان ضيف الشرف في حفل انطلاقة الحملة التي تعد الأولى على مستوى المملكة، رئيس مجموعة نسما القابضة صالح بن علي التركي، وبحضور المدير العام لفرع الجمعية السعودية للإعاقة السمعية بمنطقة مكةالمكرمة الدكتور عبدالمنعم بن حسن الشيخ، المدير التنفيذي لفرع الجمعية السعودية للإعاقة السمعية بمنطقة مكةالمكرمة محمد بن أحمد آل حمود. جميعهم أجمعوا في أن تجاهل الأصم مصيبة، وجهل المجتمع بحقوقه كارثة، وحسبما أكد التركي: «علينا إشاعة ثقافة لغة الإشارة بين أفراد المجتمع، بما يحقق مد جسور التواصل مع ذوي الإعاقة السمعية، علينا مد يد العون لهم بما يحفظ لهم كرامتهم، علينا انتشالهم من حالة العزلة، وانتشال المجتمع من سوء السمعة، علينا أن نبرهن لأنفسنا أننا رحماء أكبر على ذوي القربى». وفتح التركي أجندة العمل، بعيدا عن الشعارات والكلمات: «نعلن عن مشروع مستقبلي لتدشين موقع إلكتروني على شبكة الإنترنت، خاص بلغة الإشارة، نعلن أننا اقتربنا من أن نودع ظلام الجهل بالتعامل مع الأصم الأبكم، ونعلن أننا منذ الغد سنلعن الظلام، بشمعة العلم لنا لنعرف ماذا يريد الأصم، ولهم بتحقيق ما يصبون له». وواصل التركي: «الموقع يهدف لتثقيف أبناء المجتمع بحيث يتضمن قاعدة معلومات إلكترونية تساهم في تعلم لغة الإشارة». ولم ينته الهدف، وإن انتهت المداخلة الأولى: «المجتمع الذي يريد تنمية نفسه عليه أن يرتقي بمستوى التعامل مع جميع فئاته»، هذا هو الهدف المعلن، وهذا هو البرنامج الذي يجب تطبيقه. معهد الأصم وبعدما تناول التركي الحيز المجتمعي، والدور الشعبي في التقارب مع الأصم، بدأ الجانب الآخر في تقارب الأصم مع المجتمع، حسبما ذكر المدير العام لفرع الجمعية السعودية للإعاقة السمعية بمنطقة مكةالمكرمة الدكتور عبدالمنعم بن حسن الشيخ، والذي بدأ هو الآخر في بشارات التقارب: «نعلن إنشاء معهد عال للصم، نعلن عن بوابة أمل جديدة للتعليم العالي للصم، نعلن أن الأصم لن يقتصر تعليمه على الثانوية العامة، ولن يتوقف قطار علمه عند بوابة التعليم العام، نعلن أن ذوي الإعاقة السمعية من الآن ولاحقا، بمقدورهم دخول البوابة التي توازي الجامعة عند الأصحاء، والهدف واسع، والآمال كبيرة، والحلم بدأنا في تحقيقه، بالتعاون بين الجمعية والمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني إلى جانب مشاركة القطاع الخاص». دعم الحملة لكن الدكتور عبدالمنعم كشف عن داعمي الحملة الوطنية: «لم تكن مجرد اجتهادات، أو صدى أصوات تدندن لتنتهي بسحابات أمل، لكن هناك الداعمون الذي حرصوا على انطلاقة الحملة بشكل مغاير لما هو معروف عن الحملات، أرادوها ورشة عمل ممثل في حملة، وأرادوها حملة في قالب عمل، وأمل في نشر ثقافة تعلم لغة الإشارة، للكل، وليس قاصرا على المحيط الصغير الذي يحيط بالأصم، وحيث حظيت الحملة بمباركة وموافقة محافظ جدة الأمير مشعل بن ماجد بن عبدالعزيز، والذي شدد على رغبته في حملة ناجحة نابعة من واجب وطني وإنساني». وحرصا على نجاح الحملة، كانت البرامج المحددة حسب ما أضافه الدكتور الشيخ: «الجمعية لديها الكثير من النشاطات الهادفة والمميزة، والتي تنفذها على مراحل منتظمة، ومن بين هذه النشاطات تأتي حملة بيننا أصم، والتي تهدف إلى محو أمية لغة الإشارة وتسلط الضوء على مفهوم الإعاقة السمعية ومسبباتها وطرق الحد من انتشارها عن طريق التوعية والتثقيف المستمرين». رسائل توعية وبدأ المدير التنفيذي لفرع الجمعية السعودية للإعاقة السمعية بمنطقة مكةالمكرمة محمد بن أحمد آل حمود، في توضيح أهداف الحملة: «تخاطب جميع شرائح المجتمع العمرية من كلا الجنسين، ومن كافة الجنسيات، وستتضمن طباعة أكثر من نصف مليون نسخة مجانية مختصرة من القاموس العربي الموحد والمطوية التعليمية للغة الإشارة بحيث يتم توزيعها على مختلف الفئات المستهدفة». وحتى لا يختلط الحابل بالنابل، وحتى تؤتي الشجرة ثمارها، راعت حملة «بيننا أصم» أن تضم المختصين، حسب تأكيدات آل حمود: «الحملة يقوم عليها متخصصون في مجال لغة الإعاقة السمعية ولغة الإشارة والتخاطب، مما يجعل عمل الجمعية السعودية للإعاقة السمعية بمنطقة مكةالمكرمة عملا احترافيا ومنظما، ولا يخضع لمسألة الاجتهاد واحتمالات الصواب والخطأ». لجميع المناطق لكن الحملة التي تنطلق في مدينة دون الأخرى ربما أحيت آمال جزء من الفئة الغالية، فأين البقية؟ الرد تبناه مدير الحملة خبير لغة الإشارة والباحث في مجال الإعاقة السمعية بندر بن علي العمري: «نعرف أن المعاناة لا تقتصر على المعوقين سمعيا في مدينة بعينها، ونعرف أن العذابات التي يعيشونها، والمعاناة التي يمرون بها، لا تقتصر على منطقة بعينها، لكننا نعمل وفق طموحات واسعة، نريد الآن أن نقول للجميع إننا التفتنا للأصم، ولن نتوقف، والجمعية لديها نية خالصة في تطوير وتوسيع الحملة لتشمل جميع مناطق المملكة في المراحل المقبلة، والآن نحمل معنا أمل الوصول لشريحة واسعة في المجتمع، عطفا على البوابة الواسعة لانطلاقة الحملة، والتي تستهدف في مرحلتها الأولى عشرات المراكز التجارية الكبرى والأماكن الترفيهية والتجمعات البشرية، فيما جاءت انطلاقتها في شهر رمضان جاء بهدف الاستفادة من الإقبال على التسوق خلال شهر رمضان المبارك». الفئة العمرية وبين العمري أن الحملة: «تخاطب جميع شرائح المجتمع العمرية من كلا الجنسين ومن كافة الجنسيات، وهي فرصة لتحث الجميع على أهمية تعلم لغة الإشارة من كافة الشرائح، وضرورية للتأكيد على الحاجة الماسة لتوعية المجتمع بأهمية التواصل مع الصم، وتوفير بيئة نموذجية تساهم في تفهم حاجاتهم وتلبيتها، فضلا عن كون ذلك يقدم لهم دعما معنويا، وأعتقد أن لغة الإشارة ستنقل الناطقين إلى عالم آخر غير عالمهم الذي يعيشون فيه» .