قهرا وألما، يعشن بين ظهراني المجتمع، نعرفهن، لكننا قد لا نعرف ما يعانينه في الحياة. تكتم الجدران الأربعة لكل منزل خلفها أسرارا، وتنجح في كتمانها كثيرا، لكن الصدور التي تضيق بتلك الأسرار يأتي عليها حين من الدهر لتلفظ ما فيها. لكن الغريب أن قاعات الانتظار في المحاكم، باتت أفضل مكان لتجمع هذه الفئة، هناك يتنفسن، ويخرجن ما في صدورهن من وجع وآلام. في الداخل لا مجال للشماتة، ولا حتى التحقير، فالكل في الموقع سواء، والكل منشغل بما فيه من معاناة. في أروقة المحكمة الجزئية في جدة، وتحديدا في مكتب التوجيه والإصلاح «لجنة إصلاح ذات البين»، ترصدنا الحارات، نقتفي آثار دموعهن، علها تبوح بالأسرار التي يمكن أن يستفيد منها المجتمع، وربما يوفر لهن الحل والنصيحة التي لا تقدر بثمن. طول الانتظار في مكتب الشيخ، تعالت أصوات أكثر من 25 مراجعة كن ينتظرن أدوارهن منذ ساعات طويلة جدا، تتعدى الست ساعات. بعضهن تواجدن في الصالة منذ الصباح الباكر، وأصررن على قتل الوقت الطويل أحيانا بمشاطرة الأخريات رواية قصصهن، وإن كن لا يركزن لا في تفاصيل ولا في روايات، فالأوجاع أقسى، والمعاناة مؤلمة، لكن الوقت أيضا يحتاج للقتل. لسان حال هؤلاء النسوة يسأل: لماذا كل هذه المواعيد؟ لماذا كل هذا الوقت؟ فقد مضى على تمادي أزواجنا في تعذيبنا ما يكفي، وحان الوقت حتى يتوقف ظلمهم لنا، فبالرغم من قناعتهن بعدالة القضاء فإنهن اتفقن على أن طول المواعيد والإجراءات يزيد من معاناتهن. انتظار 15 عاما أم سليمان تبكي بعد أن طال بها الانتظار، تعتبر كل دقيقة تمضي من الوقت تعادل أياما بل شهورا وأعواما، شريط حياتها يمر أمام ناظريها، فهي في الثلاثينيات من العمر، قضت أكثر من نصفها، 15 عاما، في معاناة كاملة، بعد أن أساء أهلها اختيار الزوج المناسب، فدفعت الثمن. زوجها أكبر منها سنا بقرابة، 25 عاما، رغم ذلك تقبلت هذا الفارق، وسعت إلى حفظ استقرار أسرتها، وخاصة بعد أن أنجبت منه ثلاثة أبناء، لكن ذلك الزوج رفض أن تعيش الأسرة في أمان واستقرار، فتفنن في التقصير في أداء واجباته الزوجية، وفي تربية أبنائه، حتى باتوا يحملون مشاعر سلبية تجاهه، ويلومون أمهم، لدرجة أن أصغرهم سنا لامها بسؤال يشبه الحساب والعقاب معا: «لماذا لم تحسني اختيار الأب لنا؟». سؤال الصغير وقتها أفاقت من غفلتها، وأصرت على أن تنقذ نفسها وأبناءها الذين هجرهم الزوج لأكثر من خمسة أعوام، دون مصروف، ودون أن يأبه بمرض أحد منهم، أو إطعامه، وبعد ذلك وقف أمام المحكمة ينادي ويصرخ: لا أريد أن أطلقها، أخاف على مستقبل أطفالي. قبل أن يبدأ المساومة المادية: «يمكنني أن أطلق إن أعادت لي المهر الذي دفعته». متجاهلا 15 عاما عانت فيها الزوجة قهره وظلمه. وفيما أجهشت أم سليمان أمام الأخريات بالبكاء، ناداها المنادي إيذانا لموعد دخولها على الشيخ، للنظر في قضيتها، فقد حضر خصمها الذي غابت صورته عن ذهنها منذ أعوام، ولم تعد تذكر منه إلا أحاسيس الألم والحزن والجراح، يغلق مكتب «2» أبوابه، وتفتح القضية، وتفتح معها جراح 15 عاما، وما زالت القضية تدور رحاها، بلا نهاية. الزوج المدمن اعترى القلق والخوف من المصير المجهول أم حمود، فتبرعت برواية معاناتها لمن يجلسن إلى جوارها، فهي لم تتمكن من رؤية أبنائها منذ أكثر من خمسة أعوام، فقد أجبرت على ترك منزلها قبل أن يتم رضيعها عامه الثاني، والآن يبلغ من العمر سبعة أعوام. تتهم أم حمود زوجها بأنه لم يحسن معاشرتها، بل تعمد إهانتها أمام أبنائها، والاعتداء عليها بكيبل الكومبيوتر، فهو مدمن للمخدرات، بل تمادى في غيه فبدأ يعقد جلسات السمر والتعاطي في منزله، أمام زوجته وأبنائه: «في إحدى الليالي، وبعد أن أتم الزوج المدمن جلسة التعاطي مع رفاق السوء، اعتدى علي بالضرب المبرح، وأخرجني من المنزل، دون أن يمكنني من ارتداء ملابسي على الأقل، وأرسل أبنائي إلى المنطقة الجنوبية؛ ليعيشوا مع جدتهم، حتى لا تستطيع أمهم المقيمة في جدة الوصول إليهم». رفعت أم حمود دعوة حضانة منذ سنتين، عانت خلالها من جور المواعيد مثلما عانت ظلم الزوج، فبين كل موعد وآخر فاصل يمتد لأكثر من شهرين، عندها دخلت إلى الشيخ، فقد حان دورها. معلقة منذ عامين ه. حلواني، ذات ال22 عاما، بدأت تشكو لجارتها في الصالة، زفرات ألم: «أنا معلقة منذ أكثر من سنتين، على الرغم من عدم ارتدائي فستان الزفاف كما هو حال قريناتي، فزوجي لم يدخل بي بعد، ولكن اتضحت لنا أمور جعلتنا أنا وأهلي نصرف النظر نهائيا عن هذه الزيجة، فقد لاحظت تصرفات مريبة منه كلما رن هاتفه النقال، ما دعاني لتفتيشه، فوجدت صورة امرأة في أوضاع وملابس مخلة بالآداب، ليعترف بعد مواجهتي له بأنها عشيقته، فطلبت الطلاق منه ورفض». وتضاعفت المعاناة بعدما ألقى رجال الهيئة القبض على الزوج مع عشيقته في خلوة غير شرعية، وحكم عليه بالجلد، وبعد قضاء العقوبة تزوج من تلك المرأة؛ لأنها حملت منه سفاحا». عندها أصر هذا الزوج على عدم طلاقها عندما طلبت منه الطلاق، تدخلت أسرتها ولكنه رفض، وقال لها: «سأتركك معلقة العمر كله، فأنا لن يضرني شيء من بقائك على هذا الوضع». تقدمت حلواني بطلب فسخ عقد الزواج: «أمضيت في المحاكم أكثر من 14 شهرا دون أن يحكم لي، رغم إحضاري ورقة تثبت أنه حكم على الزوج بالجلد». وهنا تتجه حلواني إلى مكتب رقم (4) ويقفل الباب، ولكن الحكاية لم تقفل. قضية خلع أما أم زهرة، فهي تعيش في إحدى المحافظات القريبة من جدة، حضرت إلى المحكمة، ولم يحضر خصمها أبو أبنائها الخمسة، الذي أذهبت المسكرات عقله وضميره. جلست تنتظر دورها، فهي في المحكمة منذ الثامنة صباحا، يرافقها والدها المسن، فقد تكبدا عناء السفر لحضور الجلسة، على أمل أن ينطق الشيخ بالحكم لها باستحالة العشرة، ويوصي بطلاقها، فقد عانت من زوجها الكثير؛ من قلة العيش، والإهانات، والضرب، حتى قررت أن تضع حدا لهذه المعاناة، ورفعت قضية خلع منذ ثلاثة أعوام، ولا تزال تنتظر المنادي ليناديها بالدخول إلى مكتب الشيخ. علاقة غرامية لكن أم محمد تعيش معاناة أخرى، فالزوج أصيب في حادث مروري، دخل على إثره إلى المستشفى، وتطلب علاجه شهورا عديدة، عانت خلالها وأبناءها قلة ذات اليد، فباعت كل ما يمكن بيعه من ذهب، حتى باعت أثاث المنزل؛ لتؤمن العيش لها ولأبنائها، ثم تقدمت لإحدى الجهات الخيرية طالبة المساعدة، فوافقوا على منحها معونة شهرية بشرط أن تكون هذه المعونة باسم الزوج. مرت شهور العلاج، وبعد أن شفي الزوج تماما وتعافى من إصاباته، ارتبط بعلاقة غرامية مع خادمة الجيران، وبدأ يصرف عليها كل ما لديه من مال، فيما تعاني أسرته في المقابل فقرا مدقعا، إضافة إلى تعمده إهانة زوجته وأطفالها. ولصعوبة ظروف أسرتها، اضطرت أم محمد إلى أن تقبل بالحال كما هو، حتى خرجت الأمور عن نطاقها الطبيعي، عندما أقدم الزوج ذات ليلة على طردها خارج المنزل، إثر نوبة غضب شنها عليها وعلى أبنائها، وهنا قررت الزوجة أن تصرخ في وجه الظلم «للصبر حدود»، وتطلب الطلاق. قلة المصلحين رئيس مكتب التوجيه والإصلاح في المحكمة الجزئية للضمان والأنكحة في جدة المشرف العام على جميع لجان الإصلاح في جمعية مراكز الأحياء الشيخ سعد بن عبدالله الغامدي، عزا أسباب طول الفترات الزمنية بين المواعيد للنظر في قضايا النساء المراجعات، إلى كثرتهن من جهة، وقلة المصلحين من جهة أخرى. وأشار إلى ارتفاع نسبة الطلاق في جدة، مقارنة بالمدن الأخرى: «نبذل جهودا لخفض تلك النسبة التي تصل إلى 40 %، وعدد القضايا التي تنظر في اليوم الواحد ليست ثابتة، وتختلف من يوم إلى آخر، ومن محكمة لأخرى». اهتمام بالمرأة وشدد على أن المرأة تجد الكثير من العناية والتقدير من المشايخ في مكاتب الإصلاح، ومن القضاة، ومن منسوبي وزارة العدل عموما، وعند وقوع أي ظلم عليها، فإنها تجد من ينصفها ويقف معها، ويعيد لها حقوقها: «المشايخ في لجان الإصلاح يبذلون جهودا مشكورة لإنصاف أي طرف مظلوم من الطرف الآخر، وإقناع كلا الطرفين باحترام حقوق الطرف الآخر وأدائها كاملة، ولا يتم إبرام أي اتفاق صلح بين الطرفين إلا إذا كان يحفظ حقوقهما معا، ويتمثل فيه جانب العدل والإنصاف». أسباب الطلاق وأوضح الشيخ الغامدي أن أسباب الطلاق عديدة: «منها عدم التوافق بين الزوجين، وتدخلات الأهل، وعدم احترام الحقوق، وعدم أداء المسؤوليات المتوقع القيام بها، مثل الصرف على البيت، ومشكلات أخرى عديدة، منها الخيانة الزوجية، الحالات النفسية، السحر والشعوذة، الضعف الجنسي، الشك والغيرة». سلطة الرجل وبين أن السلطة المطلقة للرجل، أحد الأسباب التي تدفع الرجل للاستبداد: «الحياة الزوجية يجب أن يكون فيها احترام بين الزوجين، وتقدير كل طرف للآخر، ومودة ورحمة بينهما، والرسول صلى الله عليه وسلم قدوتنا جميعا في حسن عشرته ومعاملته للنساء، والرجل يجب أن يعامل المرأة بما تستحقه من التقدير والاحترام، وأن يعتبرها شريكة له في مسؤوليات الأسرة، يستشيرها ويحترم رأيها إن كان صائبا، والحياة لا يمكن أن تستقيم أبدا إذا أهمل الرجل زوجته، وفرض عليها كامل سيطرته، من دون تقدير لرأيها». آلية اللجان وأوضح الغامدي أن آلية عمل لجان الإصلاح تختلف حسب الموقع الذي تعمل فيه اللجنة، إذ توجد لجان إصلاح في المحكمة الكبرى، وفي محكمة الضمان والأنكحة، وفي المحكمة الجزئية: «في محكمة الضمان والأنكحة مثلا، تحول إلى مكتب الإصلاح قضايا الطلاق والخلع وفسخ النكاح مباشرة من الاستقبال، قبل إحالتها إلى القضاء للنظر فيها، فنستقبلها ونحاول الإصلاح بين الزوجين وإقناعهما بتغيير رأيهما، فإن تيسر ذلك كان بها، وإلا فيتم ترتيب النفقة والزيارة إن كان عندهما أطفال، وإبرام اتفاق بينهما على ذلك، وعلى أي حقوق بينهما، مثل مؤخر الصداق، أو أي حقوق أخرى، وبعد ذلك تتم إحالة الزوجين طالبي الطلاق إلى القضاء؛ لإتمام إجراءات الطلاق أو الخلع أو الفسخ» .