إنه الحشد .. كيف له أن ينفضّ ، وقد عكفت العقود الطويلة من الخوف والجوع والذل على سكّه في قالب متماسك: الصوت واحد ، والقبضات المرتفعة واحدة ، والتوق إلى الخلاص واحد ، والكفر بالنظام واحد ، وحتى الوجوه واحدة ، لا تستطيع أن تتمايز في غبش الظلام ، ولا في عدسة الكاميرا .. ذلك ترف لا تملكه عدسة هاتف محمول. لكنّ هناك واحدًا يتميّز عن البقية. لا يخفي وجهه في الفيلم الوثائقي (نشيد البقاء) ، ولا قامته الرياضية الممشوقة فوق منصة مرتجلة بين الحشود ، ولا صوته الشجي الذي يسبق الجميع في هتافه. سلفي إرهابي في قاموس النظام ، ولكنه (مستقبلي) مسالم لا يملك إلاّ حنجرته ، وعينيه اللتين تبرقان شغفًا بالشمس القادمة في ليل حمص الطويل. هو حارس فريق الكرامة ، ومنتخب سوريا للشباب (عبدالباسط ساروت) وذاك نشيده الذي عثر عليه ، بعد بداية الأحداث الدامية في سوريا ، عالقًا في سماء الحرية. قامته المنتصبة ، وكفّه المتحررة حديثًا من وطأة القفاز السميك لحراسة المرمى ، لتحرس أحلام الملايين من الطامحين إلى الخروج من الذل والقهر ، والطبول التي يتبدد على إيقاعها الظلام ، تجعل منه سهمًا ، وتحوّل السماء إلى مرعى للنجوم: أيُّها سيصطاد إذًا كمن قناص موغل في الحقد والكراهية ، ليطلق روحه إلى عنان السماء؟!! فليحرسك الباسط والقابض ، ولتلفك أكف الحشود وصلواتهم! أنت لا تعلم يا عبدالباسط .. كنت أنوي أن أكتب عن انتخابات نادي جدة ، وعن المآل الكئيب الذي صارت إليه ، وعن (شبيحة) الأندية الأدبية لدينا ، لكنك اختطفتني واختطفت مقالتي .. اختطفت سمعي وبصري ، وسرقت دمعة من عيني ، أنا المتحجر الذي نسي كيف يبكي منذ زمن طويل (لا تعجب يا عبدالباسط: ألست إرهابيًّا سلفيًّا مسلحًا؟). يحتد صوتك وأنت تطلق رصاصة من فمك: (ارحل صرخة الشجعان / صرخة حضر مع عربان ..) ، لكنه يتكسر ويشف إذا وصل إلى مشارف الموال: ( .. صرخة سوريا وترابا / هي هي هي ..). لقد انتزعتني يا عبدالباسط من قاعنا الثقافي المظلم ، ورفعتني إلى سمائك العالية. أنا الآن أسيرك .. رهينتك أيُّها الإرهابي الجميل!! لا تفك أسري قبل أن ينفك أسرك ، ولا تمنحني الشمس إلاّ إذا طلعت شمسك. لا تردني إلى أهلي سالمًا. ردني معطوبًا في قلبي: أبكي كلّما بكت عينٌ ، وأموت كلّما مات مظلوم على هذه الأرض. لا تردني إليهم عاقل اً، بل هائمًا على وجهي ، أفتش في الليل العربي الطويل عن ثقب في السماء يصعد منه الشهداء ؛ لكي أسده بيدي!!