جرَّنا الحديث بيني وبين أستاذنا الجليل د. عادل قوته عن حادثة البوعزيزي ، إلى محاولة الانتحار التي مرَّت بالعالِم والأديب المصري الشهير: محمود شاكر -رحمه الله-! وقد عَرض لهذه الحادثة العجيبة الأديب الكبير (مصطفى صادق الرافعي) في وحي القلم تحت عنوان (الانتحار) في ست مقالات تقطر عذوبة ، وتصف الموقف كأنه فيلم رومانسي ، يجعلك تقف متأملاً حينًا، وتغلق الكتاب للصدمة حينًا ، وتسترسل حينًا، وتدمع حينًا، وكفى بالرافعي واصفًا! ذكر الرافعي الإيمان وأثره المانع من خسران النفس والحياة بقوله: «الإيمان الصحيح هو بشاشة الروح، وإعطاء الله الرِّضا من القلب ، ثقةً بوعده، ورجاةً لما عنده ، ومن هذين يكون الاطمئنان» ، وقال: «لو كنتَ بدل إيمانك بنفسك قد آمنت بالله حق الإيمان لسلَّطك الله على نفسك ولم يسلّطها عليك!». وأخذ الرافعي يصف حالة محمود شاكر العاطفية والمأساوية -محاول الانتحار- على لسان رجل آخر ، بقوله: «وأصبحتُ في مزاولة الدنيا كعاصر الحجر يريد أن يشرب منه ، وعجزت يدي حتى لَظُفْرُ دجاجةٍ في نبشها الترابَ عن الحبة والحشرة أقدر مني»!. ووصف حاله تجاه زوجته التي شحبت ، وانكسر وجهها وتقبَّض من هزاله ، إذ يقول: «وايم الله يا فلانة لو جاز أن يؤكل لحم الآدمي لذبحت نفسي لتأكلي»!. فيالله ما أعظم المصيبة ، وما أقسى الألم، وما أصعب الفراق! هذا ومحمود شاكر مَن هو في علمه وأدبه ومكانته ، ثم يفكر في الانتحار لحادث قطَّع قلبه ، فكيف بالشاب محمد البوعزيزي؟! إن مبدأ الإقدام على الانتحار -ولا شك- مبدأ محرَّم، فضلاً عن ممارسته بأي لون ، لكن من المهم أن نسأل عن الباعث الحقيقي للانتحار ، والذي قد يكون مآله مرضيًا!! إن الانتحار لمجرد السخط على عمل ما ، أو الاعتراض على قدر ما ، أو الضعف لمواجهة موقف ما ، أو الهلع من حدث ما، كل ذلك دليل ضعف إيماني، وهزال روحاني، وكما قال الرافعي: «إذا لم يكن الإيمان بالله اطمئنانًا في النفس على زلّاتها وكوارثها لم يكن إيمانًا ، بل هو دعوى بالفكر أو باللسان لا يعدوهما ، كدعوى الجبان أنه بطل ، حتى إذا فاجأه الرَّوع أحدث في ثيابه من الخوف ، ومن ثمَّ كان قتل المؤمن نفسه لبلاء ، أو مرض ، أو غيرهما كفرًا بالله ، وتكذيبًا لإيمانه ، وكان عمله هذا صورة أخرى من طيش الجبان الذي أحدث في ثيابه!». لكن ماذا لو كان مبعث هذا الانتحار لا للاعتراض على القدر والألم ، ولكن للاعتراض على تفشي الظلم العام ، والفساد المستشري، وتحطيم الكرامة ، وخسران العيش الشريف ، ليكون الانتحار وسيلةً لغاية أكبر ، تفضي على وجه اليقين لكسر شوكة الظالم ، وإظهار الحق، وسيادة العدل! إن هذا في التشريع الإسلامي حق ومقبول في سياقه ، ومن أبرز مشاهد ظهور هذا الحق قصة أصحاب الأخدود التي جعلها الله من القصص الحق التي تُليت على النبي صلى الله عليه وسلم ، لتتعلم منها أمته الدروس والعبر ، لا لتكون شرع من قبلنا ونتسلَّى بها! ولربما تكون مثل هذه الحادثة شاهدًا من مجاهدة النفس وجهاد الظالم وإيلامه (والجود بالنفس أقصى غاية الجود). ولابن تيمية -رحمه الله- في كتابه الفذ العظيم (قاعدة في الانغماس في العدو وهل يُباح؟) ما يدعو الشرعيين والمفكرين للتأمّل. إنه مرة أخرى لا يقر العاقل بمبدأ التفكير في الانتحار فضلاً عن ممارسته ، ولا تستهين الأمة الواعية بقطرة دم واحدة ، لكنها في المقابل لا تقف متفرجة على الأحداث ، ولا تربط بين الأسباب ، ولا تنظر في الأدلة والقواعد والمآلات! إن غايةَ ما حدث مبعثه نيَّة الفاعل للانتحار ، وهذا سبب تردد الفقهاء في حكم صلاة الجنازة عليه. وإن كنا لنرجو أن تكون الآثار الحسنة بعد موته -رحمه الله- خيرًا، ورجاء عفو من الله ، بل ورجاء أن يكون شهيدًا على نيته ، والله أعلم بما في قلوب العالمين. ولعل دماء الشهداء التي التقت في شوارع (تونس وصفاقس وسوسة) تجري في وادي محمد البوعزيزي ، لأنه كما كانت العرب تقول: إذا قُتل اثنان فجرى دمياهما على طريق واحد ، ثم التقيا، حُكم عليهما أنهما كانا متحابين!: فلو أنَّا على حَجر ذُبحنا جرى الدَّميَان بالخبر اليقين!