سيقال وربما قيل، انتصر السعوديون على الإيرانيين في لبنان، على اعتبار ما هيأه وكرسه الوجود السوري في لبنان عبر عقود، من أن ما كان يعرف ب\"سويسرا الشرق\" تحولت إلى ساحة لصراع القوى وتصفية الحسابات بينها على حساب الوطن اللبناني، ومع أن تغلغل الوجود السوري الطويل في كل مفاصل الحياة وما تزامن معه من تنامي قوة \"حزب الله\" وبالتالي النفوذ الإيراني ثم الظهور والصعود السريع لنجم \"رفيق الحريري اللبناني السعودي\"، كل ذلك وما صاحبه وما تلاه من تداعيات، يجعل من هذا الاستنتاج الذي يتحدث به ويبرره بعض المحللين والمراقبين السياسيين وارداً في ظاهره وربما منطقياً على اعتبار الزعم بأن السعوديين بالضرورة يدعمون فريق \"14 آذار\" طالما أن الإيرانيين يدعمون فريق \"8 آذار\" علناً مادياً وسياسياً،غير أنني أعتقد أن مثل هذا الاستنتاج فيه تبسيط شديد للأمر، لأن المواقف السياسية المعلنة والدعم الواضح على أرض الوطن اللبناني مختلفان اختلافاً بيناً بين السعودية وإيران، ففي حين تعلن إيران بوضوح أنها مع \"حزب الله\" وفريقه فقط، والحزب وحلفاؤه يعلنون ذلك ويفتخرون به، نجد فريق \"14 آذار\" يكرر شكره للسعودية على دعمها للبنان كله وليس لهم كفريق أو تحالف، فالسعودية تقف موقفاً متوازناً وعلى مسافة واحدة من الفريقين، وتعلن بوضوح أنها لا تتدخل في شؤون لبنان الداخلية، وفي حين تتجه \"الأموال الطاهرة كما وصفها السيد حسن\" من طهران إلى حزب الله فقط وفق الاعتراف المعلن للطرفين الداعم والمدعوم وما تشهد به الأرض اللبنانية نفسها، فإن هذه الأرض نفسها وما عليها من بشر ومنشآت حياة تشهد بأن الدعم السعودي لا يفرق بين طائفة وأخرى ولا بين من يصفق للسيد والعماد أو يمجد فريق الحريري والبيك جنبلاط وإنما هو يتوجه إلى كل اللبنانيين باعتراف فريق \"14 آذار\" وصمت وعدم إنكار فريق \"8 آذار\" حيث لا سبيل للإنكار أمام شواهد الواقع، أما الصمت فلا يمكن محاسبة أحد عليه، وهذا الواقع الحي المعروف المعلن هو ما يجعلني أعتقد أن الاستنتاج بأن حصيلة الانتخابات هي انتصار للسعوديين على الإيرانيين فيه تبسيط كبير لعمق ما حدث، ولأهمية ما حدث، بل وفيه قدر من السذاجة السياسية. لقد تحدثت أمس عن سقوط الشعارات الحالمة والواهمة في وطننا العربي، ولعلني أوضحت أو أشرت إلى ملامح وعلامات نشأتها وسقوطها ثم ما تشهده اليوم من خفوت وتلاش في الوجدان العام بصورة تتجلى بوضوح صارخ من خلال وسائلها الإعلامية المعروفة، وقد فعلت ذلك لأضعه مقدمة للقارئ عله يتفهم (وهو يتأمل نتائج الانتخابات اللبنانية) ما سأقوله عن تصدر وانتصار قوة \"العقل\" وتراجع وتهاوي أوهام \"الشعار\"، من خلال الانتخابات النيابية في لبنان، والتي حظيت وما زالت تحظى باهتمام ضخم ومتابعة عربية وعالمية كبيرة، وشهدت من الاستعداد والتجييش والاحتشاد داخل لبنان كما لم تشهده أي انتخابات سابقة في تاريخه، فكيف حدثت هذه النتيجة؟ قبل أن نجيب لا بد أن نعرف بماذا دخل كل فريق؟. دخل فريق \"8 آذار\" هذه الانتخابات بثلاثة أسلحة فتاكة في نظره ونظر \"الشعاراتيين العرب من خارج لبنان\" هذه الأسلحة الثلاثة يسندها ظهر ضخم هو إيران، أما الأسلحة فهي أولاً: الانتصار الإلهي المزعوم لحزب الله في 2006، ثم يوم \"7 أيار\" المجيد الذي اجتاحت فيه مليشيات الحزب بيروت وقتلت الأبرياء ودمرت الحياة فيها، وثانياً: الأموال الإيرانية الطاهرة التي يوزعها الحزب سراً وعلناً على أتباعه وأتباع من تحالفوا معه نقداً وفي صور مختلفة من الدعم، وثالثاً: سلاح حزب الله نفسه الذي جرب اللبنانيون سطوته وقوته وشاهدوها بأم أعينهم في بيروت وهذه قوة لا يستهان بها في تكثير الأتباع خوفاً من بطش وطمعاً في سلامة وسلام، فإذا أضفت أن تجريد الحزب من سلاحه دونه خرط القتاد، وأن الحزب وعد اللبنانيين بتسليح الجيش اللبناني النظامي في حال فوزه وفريقه في الانتخابات بأسلحة طاهرة قاهرة رخيصة الثمن سريعة الوصول فإن القوة تصبح قوتين وثلاثاً وعشراً في وجدان الناخب الذي بلغ به الأمر خلال فترة الاستعداد والتحشيد للانتخابات أنه يخشى الإفصاح لجاره عمن سيصوت له خوفاً من أن يجد سيارته محروقة، أو شقته منهوبة ولذلك كان الصمت الخيمة الآمنة للناخبين إلى لحظة الانتخاب وإلى الآن، إذ غالباً لا يستطيع أي لبناني خاصة الموجودين في الداخل أن يقول لمن أعطى صوته، فالحذر ما زال مطلوباً. كانت هذه الثلاثة هي أسلحة فريق \"8 آذار\" التي دخل بها الانتخابات تحت شعار واحد هو \"المقاومة\" مقاومة العدو الإسرائيلي بواسطة الحزب المسلح الذي أصبح دولة داخل الدولة، ومقاومة سياسة أمريكا والغرب التي توجه التهمة مباشرة إلى فريق \"14 آذار\" بأنه الأداة التي ستنفذ تلك السياسة أو تنفذ من خلاله، فكيف سقط هذا \"الشعار\" الهائل على الرغم من قوته وسطوته منبرياً وإعلامياً وتنفيذياً على أرض الواقع، غداً نكمل.