يقل بين الناس من يقدم المعروف بدون مقابل وخاصة في هذه الأيام , حتى أولئك الذين يعملون الخير ويرمونه البحر ؛ يحدقون في صفحة الماء أياما طويلة في انتظار أن يرد البحر معروفهم .و يردد الناس كثيرا مقولة \" اتق شر من أحسنت إليه \" لكثرة من يتجاهلون الرد بالمثل على من أحسن إليهم , وأكثر من يشدد على رد المعروف هم الآباء والأمهات ؛ فهم يربون الأبناء وقد يحسنون وقد يقصرون , ولكنهم يؤمنون بنهاية سعيدة واحدة , يرسمون أحداثها في مخيلتهم منذ نعومة أظفار أطفالهم , نهاية يجدون فيها راحتهم بعد عناء وتعب , ويرون أنفسهم ملوكا متوجين في مملكة وأبناؤهم الرعية , بل ويزمنونها حسب سن معينه يبدأون فيها بمد الأكف لتلقي الثمن المادي والمعنوي , ويبدأ الحساب , وتكثر الشكوى , ويترجم الوالدان أو أحدهما كل ما يفعله الأبناء أو ( لا يفعلونه ) بالجحود والنكران , ويثورون إذا اختلف السيناريو عن ذلك الذي وضعوه , ويعلنون الثورة إذا شارك في الأحداث الحياتية شخص لا يعجبهم . ولكنهم لا يلاحظون أن أبناءهم يردون الجميل منذ صغرهم , ويودعون في حساب الأهالي رصيدا لا يستهان به من السعادة والمشاعر الدافقة التي يغدقونها على والديهم . ألسنا نرى سعادتنا في سعادتهم؟ ألم تزغرد قلوبنا فرحا عندما سمعنا صرخاتهم الأولى ؟ لقد حركوا في صدورنا مشاعر راكدة من العواطف , فعرفنا جميع أوجه العطاء والتضحية والتفاني , ألم نجد الدفء ونقاء الطفولة عندما دفنا أنوفنا في رقابهم الصغيرة نقبلها ونشتم رائحتها الزكية ؟ كيف شعرنا عندما سمعنا كلمة بابا وماما لأول مرة ؟ وبكم من أرصدة العالم ثمنا ضحكاتهم الصغيرة أو حتى ابتساماتهم ؟ وعندما مشوا خطواتهم الأولى ؛ ألم نسجلها ونصورها ونعلقها أمام أعيننا لنتعلم منها أن الإنسان هو من يصنع مستقبله عندما يضع خطواته على أول الطريق بعد عثرات متكررة ؟ حاول أن تتذكر مشاعرك عندما ناداك من حولك لأول مرة : يا أبو فلان ! لقد انتعشنا وتفتحت خمائل نفوسنا على منظرهم وهم يكبرون أمام أعيننا , يخرجون إلى مدارسهم ويأخذون معهم أرواحنا ويعيدونها إلى مكانها عندما نراهم ونطمئن عليهم , ثم أبهجونا بنجاحاتهم الصغيرة وجاءونا يركضون بالشهادات , يطالبون بالهدايا قبل أن يضعوها في أيدينا ويسوقونا إلى المتاجر ليمارسوا علينا ابتزاز اتهم الصغيرة لنشتري ما يريدونه وقد نفعل ذلك راغمين , تقيدنا أغلال العدم والحاجة , ولكننا لا ننكر أن شعورا لذيذا دغدغ مشاعرنا ونحن نفعل ذلك ! إن أبناء هذا الجيل يساهمون بشكل كبير في إخراج ذويهم من بوتقة الثقافة المحدودة إلى عالم المعرفة الواسع ؛ فعرفت الأم الانترنت ومجاهله الكثيرة بمجرد أن طالعته مع ابنتها التي تسعى من خلال تربيتها إلى إشباع عاطفة الأمومة لديها , وأصبح الأب يعرف عن عالم السيارات والتقنية المتطورة ما كان بالنسبة إليه أمر غير موجود . مهما أتعسنا الأبناء ومهما شعرنا بالإحباط لبعض مواقفهم وتصرفاتهم , ومهما شعرنا بأن الثمن لم يناسب سلعتنا التي قدمناها ؛ علينا أن نعترف أنهم جيروا في أرصدتنا الكثير والكثير مما لا يقدر بثمن .