بعد فترة قصيرة سيجتمع باحثون وباحثات لمناقشة قضايا المرأة في إطار ملتقى الحوار الوطني الثالث بالمدينةالمنورة، القضية شغلت رواد خطابنا الاصلاحي وشغلت من جاء بعدهم وسننشغل بها اليوم وغداً لأنها إشكالية معقدة تكونت على مدى تاريخ طويل ولن تزول، إن زالت، إلا بشكل تدريجي وبمشقات كثيرة، وبعد قرارات جريئة تتخذ الآن عسى أن تؤتي ثمارها في المستقبل. هناك الكثير من الأوهام والضلالات المعرفية عن المرأة تحولت إلى \"حقائق صلبة\" في ثقافتنا اليومية، والأخطر من ذلك أنها أصبحت تعتبر عند أغلبية الرجال والنساء جزءاً من الدين وما هي كذلك قطعاً. فكر التوحش، كما أسميه، يعتبر المرأة كائناً وسطاً بين عالم الإنسان وعالم الحيوان، ويتعامل مع \"جنس النساء\" من منظور الخوف والعداء والاحتقار فيحول المرأة إلى موضوع دائم للمراقبة والعقاب بدعوى مكرها وفتنتها الخرافيين أو بدعوى ضعف عقلها وهشاشة خلقها الخرافيين أيضا!. هذا الفكر يضرب بجذوره في مجهولات الثقافة الأبوية الذكورية العريقة في المجتمعات القبلية المتوسطية كلها كما تقصته الباحثة جيرمين تيوّن في كتابها \"الحريم والأعمام\" (لم يترجم عن الفرنسية فيما أعلم). وجد الفكر ذاته صياغته المثلى في كتابات الغزالي - أبي حامد - وأمثاله من الفقهاء التقليديين الذين لم يعاينوا المرأة قط كذات إنسانية حرة عاقلة مسؤولة وحدها عن أقوالها وأفعالها (اعتبروها عرضاً أو حرماً تابعاً للرجل كما يقول محمد بن علي المحمود). حاول الفقيه المجتهد أبو محمد بن حزم أنسنة العلاقات مع المرأة بتأطيرها ضمن \"فكر المحبة\" ولم يؤثر خطابه كثيراً خارج المجتمع المغاربي الذي ورث ثقافة الأندلس، بعضها. أبو الوليد محمد بن رشد ( 520- 595ه) فيلسوف قرطبة وقاضي قضائها أدرك من بعده خطورة وضعيات المرأة في المجتمعات الإسلامية وحاول بيان الخلل والحث على إصلاحه ضمن مشروع أعم وأشمل ولكن من دون جدوى تذكر. وحينما نعود اليوم إلى خطابه عن المرأة، أو إلى خطاب ابن حزم، فذلك للتأكيد على ثلاث قضايا يمكن أن تساعدنا على مجابهة إشكالية نعتبرها إشكاليتنا الاجتماعية الأولى والأهم في المملكة بوجه خاص. القضية الأولى ضرورة الوعي بأن في ثقافتنا العربية الإسلامية خطابات غنية متنوعة تختلف حد التعارض والتناقض حول وضعيات المرأة، وبالتالي فلا مبرر لاختزالها في خطاب الغزالي \"وممثلي الفقه الذكوري\" من قبله وبعده. القضية الثانية أن تغلب خطاب على آخر في أحد مجتمعاتنا لا يعني تفوق الخطاب معرفياً وصحته شرعياً بقدر ما يعني تدخل مؤسسات المجتمع وسلطاته الرسمية والأهلية لتغليبه، وهذا موقف \"ايديولوجي\" أولاً وبعد كل شيء. القضية الثالثة ان ابن رشد كان يمثل ارقى ما وصلت إليه المعرفة البشرية في عصره، وبما أن المعرفة الانسانية الراهنة تجاوزت ذلك العصر وقطعت معه فلابد أن يحاول الباحث اليوم أن يستصحب الفكر الحديث والمعارف الحديثة والقيم الحديثة وإلا فلن يقول جديداً او جدياً حول وضعيات المرأة أو غيرها من الموضوعات. خطاب ابن رشد حجة لنا وعلينا من هذا المنظور فقط، إن أهميته ليست في محتواه المعرفي بقدر ما تكمن و تظهر في قدرته على تسمية إشكاليات فكرية وسياسية واجتماعية واقتصادية لم نتمكن من تجاوزها إلى اليوم في معظم مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ومنها تحديداً إشكالية المرأة لنفصل القول بعض التفصيل عسى ولعل!. لم يتعرض ابن رشد لقضايا المرأة المسلمة إلا في فقرة موجزة وردت في سياق جهده لاختصار كتاب \"السياسة\" لأفلاطون، وهو جهد معرفي حواري تضمن الكثير من التعليقات والشروح والاختلافات عن الأصل ومعه محمد عابد الجابري لاحظ، ومعه الحق، ان ابن رشد كان يريد أن يستقل بنظريته الخاصة في سياسة المدينة والدولة تنسجم مع فكره الأرسطي من جهة ومع واقع مجتمعه المسلم من جهة ثانية. هكذا كتب مؤكداً ان ابن رشد \"لم يسجن نفسه في نص أفلاطون، بل لقد تصرف فيلسوف قرطبة كشريك في انتاج النص\" (العقل الأخلاقي العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2001، حتى: 383). كلامه عن المرأة المسلمة هو إذن جزء من هذا الجهد الذي انصرف في مجمله إلى محاولة متصلة خلاقة ل \"عقلنة الخطاب الديني\" الذي ما إن هيمن عليه \"أهل الغربة عن الحق\"، وهم عنده المتكلمون والوعاظ والفقهاء التقليديون، حتى حدثت الفوضى في الأذهان وتم تبرير وتكريس الكثير من مظاهر الخلل في حياة الناس اليومية باسم الدين!.. الذي لم يتوقف عنده الجابري، أو غيره، بحسب علمنا، هو هذه الفقرة الموجزة المكثفة التي ما إن نربطها بالخطاب الفقهي عن المرأة حتى نجد فيها عناصر أطروحة نظرية وعملية متكاملة مثيرة للإعجاب وقابلة للاستصحاب الى يوم الناس هذا!. فعلى عادة المفكر الذي يحترم منطق العقل ومنطق المعرفة التي ينتجها يبدأ ابن رشد بتثبيت المسلمات البدهية كمقدمات كبرى لا ينكرها العقل السوي ولا تتعارض مع الحس الانساني المشترك بين البشر بغض النظر عن اختلاف أعراقهم وألسنتهم ومعتقداتهم وثقافاتهم. المسلمة الأولى والأهم أن النساء والرجال \"نوع واحد في الغاية الانسانية\"، وينتج عنها مسلمة منطقية ثانية وهن أنهن يشتركن في كل \"الأفعال الإنسانية\" مع الرجال، والثالثة أنهن يختلفن عنهم \"بعض\" الاختلاف لأن الرجال \"أكثر كداً\" والنساء \"أكثر حذقاً\" في بعض الأعمال. من الواضح هنا أننا أمام شكل من أشكال التأصيل العقلي المعرفي لمبدأ \"المساواة\" من جهة ولمبدأ \"الاختلاف النسبي\" من جهة ثانية. المبدآن متكاملان في العمق لأن الاشتراك في النوع الإنساني وفي الغاية الإنسانية يجعل كل اختلاف بين الرجال والنساء اختلاف \"تكامل\" لا اختلاف تفاضل، تماماً مثل الاختلاف بين أفراد الرجال والنساء من حيث القوة البدنية والمهارة الذهنية. أكثر من ذلك يبدو الاختلاف التكاملي هنا مظهراً ايجابياً تماماً في مستوى الفعل العملي لأن بعض الأعمال تبلغ درجة الكمال \"إذا أنشأها الرجال ونفذتها النساء\" كما ينص عليه ابن رشد في نهاية العبارة. إنه يضرب مثلاً على وجاهة قوله ب \"صناعة الألحان\"، لكن المثل لا يستغرق كل الأعمال ولذا تظل دلالة القول مفتوحة على أي مجال أو نشاط آخر. هكذا يضيف الفقيه الفيلسوف: \"فإذا كان ذلك كذلك، وكان طبع النساء والرجال طبعاً واحداً في النوع، وكان الطبع الواحد إنما يقصد به في المدينة العمل الواحد، فمن البين، إذن أن النساء يقمن في هذه المدينة بالأعمال نفسها التي يقوم بها الرجال\". القيد الوحيد على مبدأ المساواة هو أن المرأة عادة ما تمر بحالات الحمل والولادة والرضاعة ولهذا قد يلحقها الضعف الجسدي، لا الذهني، من هذا الوجه وعليه \"فقد ينبغي أن يكلفن من الأعمال بأقلها مشقة كما يقول ابن رشد. إننا هنا أمام قيد إيجابي مشحون بالمعاني الإنسانية النزعة، لأن تكليف المرأة بالعمل الأقل مشقة هو توفير لطاقاتها الحيوية من أجل القيام بواجب الحفاظ على النوع من جهة، وهو توفير لطاقاتها الذهنية من أجل أداء الأعمال الأكثر تطلباً للحذق والمهارة والدقة من جهة اخرى، اما حينما تنتفي مظاهر الضعف البدني عن أي امرأة لأيما سبب فلابد أن تعود الأمور الى اصلها الطبيعي والمنطقي، أي الى مبدأ المساواة الذي تكشف خبرات الحياة العملية أنه متحقق في بعض المجتمعات. فالنساء في مجتمعات البراري (البادية) ومجتمعات الثغور المجاورة للخصوم عادة ما يشاركن في \"صناعة الحرب\" مثلهن مثل الرجال كما يذكر به ابن رشد. ومفهوم صناعة الحرب هنا غاية في الأهمية لأنه يرد مطلق الدلالة ليشمل الأعمال التي تتطلب القوة البدنية أو المهارات الذهنية، أي عمليات انتاج واستعمال السلاح وعمليات التخطيط والإدارة والقيادة في بيئات خطرة كهذه. وتبلغ الأطروحة الرشدية عن مبدأ المساواة ذروتها المنطقية حينما يقول إن بعض النساء مجبولات على الذكاء وحسن الاستعداد ولذا فلا يمتنع أن يكون بينهن حكيمات أو صاحبات رياسة\". فالمرأة يمكن من حيث المبدأ والفطرة أن تشتغل بالفلسفة فتكون \"حكيمة\" وأن تشتغل بالسياسة فتكون رئيسة دولة أو مدنية. صيغة التبعيض هنا تشمل الرجل والمرأة لأنه ليس لدى كل أحد من أفراد الناس ما يؤهله لبلوغ هذه المراتب العالية التي يتحدث عنها ابن رشد ويتجاوز فيها أفلاطون بمثل هذه الفكرة أو الرؤية. كذلك لابد أن نتنبه جيداً للفرق بين مفهومي \"الممتنع\" و\"الممنوع\" لأن دلالة الأول تتصل بالمبدأ العقلي وبالحس الإنساني المشترك، فيما تحيل دلالة المفهوم الثاني الى واقع الثقافات البشرية التي لا يتيح بعضها الفرص أمام المرأة لتعمل ولتبرز في بعض المجالات. السؤال المشروع الذي يمكن أن يطرح هنا يتعلق بمدى انسجام أطروحة ابن رشد هذه في مجملها مع المرجعية الدينية الاسلامية، وهو تساؤل يعيدنا الى جذر الاشكالية التي أشرنا إليها في بدء هذا المقال. فالباحث متمكن في \"علوم الحكمة\" و\"في علوم الشريعة\" ولن يخفى على شخص مثله أن ما يقوله ويكتبه من موقع \"الفيلسوف\" ينتظر منه تبريره من موقع \"الفقيه المجدد المجتهد\" بما أن خطابه موجه في المقام الأول الى قارئ عربي مسلم. وعندما تختلف القراءات وتتعارض التأويلات للنصوص الدينية، وهي دائماً كذلك فمرجعية الحكم هي \"الحقيقة\" التي يثبتها منطق العقل البرهاني المحكم، ولن تتعارض أبداً مع الحقيقة الدينية لأن \"الحق لا يضاد الحق\" في كلا المرجعيتين. ا ما حينما يرفض \"أهل الغربة عن الحق\" كل حقيقة لا تدركها عقولهم أو لا تخدم مصالحهم فإن تجربة الحياة الواقعية تصبح مرجعية لا مناص من الاحتكام إليها. وسنرى كيف أن ابن رشد لم يبحث في قضايا المرأة إلا بعد أن أدرك أن وضعياتها المختلة المعتلة أصبحت سبباً قوياً من أسباب الفقر الحاد والضعف الحضاري العام للمجتمع والدولة، وما أشبه الليلة بالبارحة!