اجتاحت دول الخليج العربي قبل أيام حمى شاملة ، سريعة الانتشار ، وشديدة الفتك ، اسمها حمى الزئبق الأحمر ، حيث انطلقت شائعة تقول بوجود الزئبق الأحمر في نوع من ماكينات الخياطة ( سنجر ) . وتدفقت رسائل الهواتف المحمولة ، وأخبار الصحافة والمنتديات الإلكترونية على الناس فطاروا إلى الأسواق في تدافع محموم يفتشون عن هذا الكنز المدفون. انفتحت أبواب الرزق على أصحاب الماكينات ووصل سعرها إلى 600 ألف ريال سعودي ، وبلغت أرقاما فلكية في بعض الدول المجاورة ، وما إن انقشع الغبار ، وانفضت الغزوة حتى وجد أولئك الحمقى أنفسهم أضيع من الأيتام على مأدبة اللئام . هذه الحادثة نص ثقافي يمكن تفكيكه وتأويله وكشف أنساقه الخفية، وبيئته التي تمنحه البقاء ، وتهيئ له أسباب الحياة. حمى الزئبق الأحمر نشطت في جسد اجتماعي وثقافي مصاب بالعلل ، ومكتنز بالأدواء ، لديه القابلية للمرض لضعف في الحصانة ، وفقدان للقدرة على المقاومة . هذه الحمى الجديدة عرض لمرض مزمن في جسدنا الخليجي المسكون بكثير من العلل ، فقبل سنوات ظهرت حميّات أخرى من هذه الفصيلة هي : حمى سوق الأسهم التي أكلت الأخضر واليابس ، ودمرت كل شيء بأمر ربها ، ثم حمى المساهمات العقارية التي أهلكت الحرث والنسل ، وحمى بطاقات سوا ، وتجارة البيض . وتدافع المغفلون - كالفراش المبتهج بلهب النار - إلى المصارف فاقترض المقترضون ، وباع بعض الناس منزله ، وأصبح الحالمون بالثراء رهائن في قبضة جلاد لا يرحم ، واكتشف الباحثون عن الثراء السريع أنهم يطردون سرابا بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. السؤال الذي يطرح نفسه ؟ كيف اختصنا الله بكل هذا الغباء ، وهل لتربيتنا القمعية دور في رسوخ هذه الحماقة وتناميها في وجداننا الجمعي ؟ حتى أصبحت جينا وراثيا؟ ، وهل للطفرة النفطية سبب في ذلك حتى صارت هذه الحمى أعدل الأدواء قسمة بين الناس في مجتمعاتنا؟. هذا الداء العضال نتيجة لطفرة اقتصادية خلقت مجموعة من القوارض والكائنات المادية التي أصبحت مسكونة بالمال ، وكأنه بالخبز وحده يحيا الإنسان ، هذه الطفرة الأسمنتية التي تحيط بنا في كل مكان ، لم ترافقها صناعة لعقول الناس ، تحولهم من خانة الثقافة الاستهلاكية إلى خانة الثقافة المنتجة التي تنتج الوعي والإبداع ، وتزرع أفكارا واعية ترسخ شعورا لدى الناس أنهم لا يختلفون عن بقية البشر ، وأن الحياة مكابدة وعلاقة متكافئة بين الحقوق والواجبات ، وأن الثروة الحقيقية هي ثروة المعرفة وليست ناطحات السحب ، والأسواق الحرة . لقد رسمت ثقافة المركز للإنسان الخليجي صورة نمطية يظهر فيها كائنا متعاليا ومبذرا ، لا يعرف للحياة معنى ، ولا يرى الآخرين إلا جماعة مجندة تطلب شرف الانضمام لخدمته في بلاطه النبيل . النفط فتح لنا أبواب الخير ، ومنحنا فرصة التواصل مع العالم ، وهيأ لنا رغد العيش ، ولكنه أيضا فتح لنا أبوابا من الجحيم ، ووضعنا أمام صدمة حضارية ما زلنا ندفع كثيرا من تبعاتها حتى هذه الساعة ، وهذا هو مسلك الحياة ، وقانونها الخالد الذي لا يجامل أحدا .