سلطة الجمال  أ. د . صالح الزهراني* أمير الشعراء برنامج جماهيري لقصيدة ليست جماهيرية بخلاف ما نجده في برنامج شاعر المليون البرنامج الجماهيري للقصيدة التي ملأت الدنيا اليوم وشغلت الناس، حتى قال عبد العزيز المقالح بحزن شديد: هذا زمن الشعر الشعبي. هذا البرنامج -أمير الشعراء- ترمومتر لحالة القصيدة الجديدة، إبداعا وتلقيا. ومن سوء طالع هذا البرنامج أنه جاء ذرا للرماد في العيون بعد الزوابع التي أثارتها القصيدة العامية. واليوم يفجؤنا المنظمون برفع الجوائز إلى 22 مليون درهم، منها خمسة ملايين للشاعر الفائز. لقد كشف البرنامج عن أن القصيدة الجديدة تعيش أزمة خانقة، كان النقد المسؤول الأول عن صناعتها. النقاد بوصفهم مبدعين فاشلين كما يقال، أوهموا الشعراء بأن الإبداع صناعة نقدية، وليس منتجا شعريا، فأصبح هم المبدع تسول مقولات النقاد، واستجداء عبارات الشفقة التي يعتقد أنها تفتح له أبواب المجد والخلود. ولم يعلم أن الإبداع منجز فردي يمثل موقف الذات من العالم، وهو موقف لا يؤمن بالتلقين والإملاءات قدر إيمانه باليقين والامتلاءات. القصيدة الجديدة قصيدة مصابة بسوء التغذية؛ لأن النقاد حرموها الهواء النقي، والتربة الصالحة، والماء العذب، وأرادوا أن تنموا في شرفاتهم، وعلى مقاساتهم وألوانهم فخرجت نبتة هجينة ليس لها لون ولا طعم ولا رائحة. القصائد التي تنمو تحت الرقابة وكأنها الطفل الخديج لا تمتلك المناعة الكافية، ولا تحظى سوى بالنظرات المشفقة عليها من الوسط الذي احتضنها وحولها إلى كائن معاق. الشعر الحقيقي رؤية ذاتية، ومعرفة خلاقة لا تولد إلا في بهو الحرية وفضاءات التخيل، وحين يتم إجبار الشعر على تغيير جيناته، ولون عينيه، وقسمات وجهه يصبح مثل النباتات المعدلة وراثيا التي تضر أكثر مما تنفع. وحين يصغي المبدع لصوت الذات النابع من الداخل يبدع، لكنه يتذكر بلاط السادة النقاد الذين يمنحونه ورقة العبور، فيبدأ في تقليم أظافر القصيدة، وإطالة خصلات شعرها، و شد خصرها، ونفخ شفتيها، ونتف حواجبها، فتخرج كائنا مشوها كأنها رأس الشيطان. الجمال الحقيقي في القصيدة أن تكون لغة النفس، وهتاف الفؤاد، و رؤية العقل، فما لم تختلط باللحم والعظم والعصب، وتمازج الروح وتعرش في الفؤاد وترتوي من أوكسجين الدم فلن تخرج من القلب ولن تصل إلى القلب. الشعر جمال الروح و عمق الوعي وليس بهرج الشكل و بريق الوعاء. لهذا أخطأ النقاد عندما ظنوا أن الأساطير والرموز والتشكيلات البصرية يمكن أن تصنع شعرا جميلا. الشعر طبق الروح الذي لا يقبل الأكلات الجاهزة، و وصفة الحدس والخيال المحلق الذي لا يعترف بالوصفات المجانية، وألاعيب السحرة وتمائم المشعوذين. وبعض نقاد اليوم مسوقو غباء، وباعة أوهام يجب أن تنشر صورهم مع صور المزورين وقطاع الطرق وأصحاب السوابق. الجمال هو جوهر الشعر لكنه جمال ينبع من داخل القصيدة ولا يفرض عليها من الخارج؛ لأنه حين ينبت في تربة النص يسري في الأعماق، و حين يجلب من شركات النقاد يشوه الخدود والأحداق. انظروا إلى أمير الشعراء وتأملوا صفة الشعر وصفات النقاد، وستدركون أن النقد يحمل نصف أوزار هذه القصيدة التي ولدت كسيحة، وأصبحت كائنا من ذوي الاحتياجات الخاصة، تحتاج إلى الرحمة والفكاك من الأسر. الجمال حين يكون سجية يكون سحرا، وعندما يصبح سلطة يكون قبحا لا يطاق. **************************** *أحد أبناء منطقة الباحة ، أديبٌ وشاعرٌ غني عن التعريف ، مقاله هذا من ملحق \"الأربعاء\" الأدبي الذي يصدر أسبوعياً عن صحيفة \"المدينة\" السعودية.