عندما اقتربتُ منها رأيتُ ملامح امرأة قد أعياها الزمن وامتدت آثاره لتصل إلى جسدها المنهك، جلستُ بجانبها بصفاء ذهن لأستمع إلى (عائشة) وهى تسرد قصتها ل "سبق" قائلة: أنا حفيدة أحد مناصري الملك عبد العزيز في فتوحاته، رحمة الله عليهم أجمعين. وكلي فخر وعزة بانتمائي لهذا البلد العظيم وشعبه الكريم وقيادته الرحيمة بأبنائه وبناته. وأضافت :" منّ الله علي وتزوجت من رجل يمني الجنسية، وهبني الله أربعة أبناء وبنتين، بدأت جذور مشكلتي بوفاة زوجي، فأبنائي كانوا على إقامة والدهم، وبعد وفاته أصبحوا بلا هوية" . ثم تصمت قليلاً عن الكلام تسابقها دموعها، وبصوت ممزوج بالبكاء قالت: طرقتُ أبواب الجهات المختصة، مثل: إدارة الجوازات، مكتب إدارة الوافدين ومحافظة جدة. وكلمة (حُفظت) أوصدت الأبواب في وجهي، ومعها شعرت كأني أعاقب على جريمة زواجي بهذا الرجل. واستكملت حديثها: شعرت أني كبذرة أينعت في غير أرضها على الرغم من أني مِن نَبت هذا الوطن المعطاء، طاحت آمالي وأضحت الدموع وسيلتي وأنا أرى فلذات أكبادي تضيع الأيام أحلامهم، بسبب تراكم المبالغ لاستخراج الإقامات لهم حتى بلغت 35 ألف ريال تقريباً، فهي في ازدياد سنوي بمبلغ 500 ريال للفرد. وتقدمت بطلب تسليف من (بنك التسليف والادخار) لأستخرج لهم إقاماتهم وكان شرطه (وجوب إحضار كفيل حكومي)، الموضوع قائم ولكن يبقى الشرط !
أبسط مقومات الحياة: وكم شاهدت الدموع في أعينهم وهم أطفال يشعرون بافتقادهم أبسط مقومات الحياة الإنسانية، فقد حُرموا من التعليم في صغرهم، أحد أبنائي لم يعرف للعلم طريقاً حتى الآن وقد بلغ ال 20 من العمر. والباقون أُخرجوا من مدارسهم في مراحل مبكرة من التعليم، بسبب انتهاء إقامة والدهم. ومع فرحة كل عيد تنطفئ الابتسامة في عيون أطفالي، فأحوالنا المادية سيئة، ونحن نعيش على راتب الضمان الذي لا يشمل غيري في الصرف. وأضافت عائشة: مادت بنا الأيام وهى تطحننا تحت تروسها، تقدمت بأوراقي للجهات المسؤولة بطلب الجنسية لأبنائي، وقوبل طلبي بالرفض بسبب عدم تجديد الإقامة، مع مرور الأيام تتعقد مشكلتي ولم أجد استجابة من الجهات المذكورة، بلغ أبنائي سن الشباب وكادت تقتلني الحسرة وأنا أنظر إليهم عاطلين عن العمل، بسبب عدم تجديد إقامتهم منذ 15 عاماً، فأكبر أبنائي حالياً بنت عمرها 31 عاماً، وأصغرهم شاب عمره 20 عاماً. واقتربت مني ممسكة بيدي قائلة: لا أعلم حتى الآن يا ابنتي كيف سارت بنا سفينة الحياة ونحن لا نمتلك من حطام الدنيا شيئا.. إنها رحمة الله بنا التي هي زادنا الذي اعتصمنا به حتى لا ننجرف في دوامة الحياة. في مهب الريح: وبكل الحزن قالت لي: أشعر بالأسى وأنا أجد زهرات عمري تذبل بلا زواج، فعندما يتقدم شاب لإحدى بناتي ويعلم بمشكلة إقامتهم ينصرف بلا عودة. وتابعت :" أخذ الزمن من صحتي وأنهكتني الأيام، أحمد ربي على ما كتبه لي، ما يؤرقني ويؤلمني أن أجد أبنائي وبناتي في مهب الريح ولم تستقر بهم الأيام. حتى أصبحت أعيش في دوامة سؤال يراودني دائماً: ما الجريمة التي ارتكبتها حتى يعاقب أبنائي عليها؟ ثم تبتسم قليلاً قائلة: الحمد لله.. بمساعدة أهل الخير تم استخراج إقامات للبنات وهن حالياً على كفالتي، ولكن للأسف انتهت إقامة ابنتي الكبرى منذ 10 سنوات والصغرى منذ 8 سنوات، وأحد الأبناء تكفل به فاعل خير، ولله الحمد. وألمح في عينيها دمعة تأبى أن تتساقط، وبكل كبرياء حدثتني: أثقل كاهلي تراكم الإيجار الذي بلغ 24 ألف ريال، والآن مهددة أنا وأولادي بالطرد من البيت الذي يسترني. وختمت بالقول :" من أجل أبنائي الذين وُلدوا وتربوا ونهلوا من نبع عادات وموروثات هذه الأرض، أملي بمنحهم الجنسية، وإعفائهم من المبالغ المتراكمة لتجديد الإقامة، حتى أرى البسمة على وجه أبنائي قبل أن تغفل جفوني. فليس لهم بعد الله أحد غيري".