معذرة فأنا أرى جائزة جونكور هي الأمثل في عالمنا المعاصر، هي الآن أكثر أهمية من جائزة نوبل، وهي أسبق وأهم بكثير من جائزة بوكر التي تمنح للأدب المكتوب بالانجليزية، وقد صارت الجائزتان رمزا للمنافسة الساخنة بين انتشار اللغتين الفرنسية، والانجليزية فتصير الغلبة للأكثر عددا وثراء، والجائزة الثانية مرتبطة بالتقدير المادي الكبير. كما أنها تمنح في أغلب اللغات والبلدان، أما القيمة المادية لجائزة جونكور فهي عشاء في أحد المطاعم في حضور مجلس الادارة والكاتب الفائز الذي يحصل على صك قيمته عشر يورو، والفائز غالبا هو الناشر ومن بعده الكاتب، حيث تباع آلاف النسخ من الرواية الفائزة يحصل الكاتب في المقابل على نسبة من العائد. تقوم فلسفة الجائزة التي تأسست عام 1903، على أساس منح الجائزة لرواية واحدة فقط صدرت خلال الاثني عشر شهرا الماضية، وتقوم الأكاديمية بتجميع هذه الاصدارات وتصفيتها إلى ما يسمى بالقائمة الطويلة، التي تتكون من اثنتي عشرة رواية، أما القائمة القصيرة فقد صارت في الفترة الأخيرة اربع روايات، وقد كانت جونكور هي الأسبق دوما في هذا الأمر، وتقوم الصحف بمتابعة الفرز والقوائم دون أي اخفاء، ولاشك أن هذا يأتي على هوى الناشرين الذين يبدأون في حصد المبيعات لاصداراتهم الجديدة في القوائم منذ أول اعلان للقائمة مع بداية موسم العودة إلى المدارس، وهو الموسم الحقيقي للقراءة والعمل الجاد في اوروبا، وخاصة في فرنسا، فالقراءة حالة من الثقافة، اما الروايات البوليسية وروايات التجسس فانها تتوارى بشكل ملحوظ خلال الموسم، أي ان الثقافة هنا مرتبطة بالترويج وتوصيل العمل الثقافي إلى الناس، ويتم هذا بعيدا عن أعين واشراف وزارة الثقافة. وأعضاء أكاديمية جونكور الذين يقومون بالتصويت سبق لهم جميعا أن فازوا بالجائزة في سنوات سابقة، أي انهم حين يقومون بالتصويت لايشعر اي منهم بالغصة أنه سيمنح شرف الفوز لكاتب آخر دون أن يكون قد حصل عليها، ومن النادر أن يكون من بين الأعضاء واحد من الصحافة الأدبية، وسوف نرى ان اغلب من يكتبون النقد الأدبي في الصحف والمجلات هم من الأدباء المبدعين، ويتولى رئاسة الأكاديمية منذ سنوات المذيع برنار بيفو الذي ظل يقدم برنامجه الاسبوعي ابستروف لأكثر من ثلاثين عاما وأصدر مجلة لير الأدبية في نهاية السبعينيات. بيفو هو أول من خرج من باريس ومعه اعضاء لجنة التحكيم، وسافرو إلى تونس قبل اعلان الجائزة باسبوع وفي قلعة باردو الأثرية التي تم فيها اغتيال عدد كبير من السائحين الفرنسيين، وعقد المؤتمر الصحفي الخاص بالقائمة الصغيرة التي تضم اربعة ادباء هم على النحو التالي؛ «تيتوس لم يحب برنيس» للكاتبة ناتالي عزولاي أو آزولاي. «المتفوقون» للكاتب الفرنسي الهادي قدور. «البوصلة» للكاتب الفرنسي ماتياس اينار. «هذا البدر لا يشبهك» للكاتب الفرنسي توبي ناتان. تصور البعض ان الهادي قدور هو الذي سيفوز بالجائزة، وأن الأكاديمية تريد اهداء تونس الجائزة في عقر الدار، ولم ينتبه أحد إلى أن هناك سببا آخر مهما يخص الجائزة، وهو أن الروايات الأربع المرشحة لنيل الجائزة تدور أحداثها كلها في الشرق، وأن الصورة القديمة التي نعرفها عن كتابات الغرب السلبية -وهذا ليس صحيحا دوما- هذه الصورة قد تغيرت تماما بل انقلبت، وأن الكتابات الجديدة تدور حول التواصل مع الشرق، وان الشرق والغرب يمكنهما أن يتوحدا خصوصا في عالم الابداع، فرواية «تيتوس لم يحب برنيس» تدور حول الفتاة الفلسطينية التاريخية برنيس، وهي الشخصية التي كتبت عنها الكاتبة أندرية شديد مسرحية شهيرة بالفرنسية، اما رواية «المتفوقون» فتدور أحداثها في شمال أفريقيا ابان الاحتلال الفرنسي للجزائر، خاصة ان الرواية الفائزة «البوصلة» كاتبها فرنسي، وليس من اصول عربية، أو شرقية، وخاصة أيضا أن الكاتب الهادي قدور قد فاز بجائزة الأكاديمية الفرنسية قبلها بأيام مناصفة مع الكاتب بوعلام صنصال، عن رواية باسم 2084، باعتبار أن كثرة الجوائز في فرنسا، تمنع على الكاتب، غالبا، الفوز بأكثر من جائزة مرموقة أثناء الموسم لإعطاء الفرص لكتاب، ودور نشر ان تكون في دائرة ضوء الجوائز. لم يكن اسم الكاتب الفائز بجديد على القارئ الفرنسي، مثلما حدث في العامين السابقين، فقد بدأ ماتياس حياته الأدبية عام 2003 برواية «تحسين» واعتبر من كبار الكتاب في بلاده بعد روايته الرابعة «منطقة» التي ترجمت إلى اللغة العربية، أي ان الكاتب مترجم إلى اللغة العربية من خلال كتابين على الأقل، ومن اعمال الكاتب الاخرى»شارع اللصوص» التي وصلت إلى ترشيحات جونكور منذ ثلاثة أعوام، وأيضا «كلمهم عن العزلة» و«ملوك وأفيال». الكاتب مولود في مدينة نبور الفرنسية عام 1972، درس اللغتين العربية والفارسية، وعاش لفترات متقطعة أو طويلة في مدن الشرق سواء بيروت، او القاهرة، او اسطنبول. ودمشق، كما عاش في طهران، وقد كان في جولة بين بيروتوطهران قبل اعلان فوزه بما يعني انه مرتبط بالمنطقة وتاريخها، وكل رواياته تدور في نفس المنطقة، أكثر ما تدور في فرنسا. هذه الأعمال تتكلم عن مذاق مختلف عن المألوف، فالشرق ليس عالما للتطرف أو الارهاب بقدر ما هو وسيلة للامتزاج الحضاري، فرواية «البوصلة» مكتوب عنوانها بوصلة بالحروف الفرنسية، والبوصلة عبارة عن مؤشر مزدوج يكشف الأقطاب المتضادة، لكن كل قطب لا يستغني عن الآخر، وتدور أحداثها في ليلة واحدة، في النصف الثاني من ليلة في فيينا، ابتداء من الحادية عشرة مساء حتى السادسة صباحا، بطل الرواية عالم في الموسيقى يقيم في النمسا اسمه فريتز رايتر، انه يعيش ليلة بلا نوم، يعيش في حالة أرق، ولا يستطيع النوم فيسترجع ذكرياته عن سفرياته إلى مدن الشرق انه يتخلص من الأرق من خلال التذكر، وهو منبهر بشكل ملحوظ بالموسيقى الشرقية وآلاتها، ويرى ان الموسيقى وحدت بين الشعوب، حيث انتقلت الآلات والنغمات عبر الأماكن والأزمنة. تدور الأحداث في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، انها الفترة التي توجهت فيها أنظار الغرب ثقافيا نحو الشرق، إلى ثقافته بوجه خاص، وانتشرت حركة الاستشراق، سواء من جانب الفن التشكيلي، او الرواية، او الموسيقى، ولاشك ان الطرفين قد أخذ كل منهما من الطرف الآخر، فهذا التراث الرائع من المدارس الأوروبية كشفت شغف الاوروبيين بفنون الشرق، فاقتبست منها، وأضافت اليها. الكاتب لا يرى ان المسألة فيها سيطرة بل تأثير، الموسيقى الغربية جاءت إلى الشرق واستعذبها الناس، كما ان الاوروبيين امثال فرانز جاؤوا بآلاتهم الموسيقية الغربية، ونقلوا إلى فنونهم الايقاعات الشرقية، ويبدو ذلك واضحا في مقطوعة «شهرزاد»، وينتقل فرانز مع حبيبته سارة الى اماكن عديدة تعرف قيمة الموسيقى في حياة الشعوب، ومنها اسطنبول، ودمشق، وحلب حيث يصدح الشرق، حيث تنمو دوما الاصوات الصداحة ويطور الناس آلاتهم، وفي اثناء الرحلة تتنامى المشاعر العاطفية بين الاثنين، ويرى الراوية أن الناس في الشرق يستمتعون بالذكاء وبحس عميق على السخرية والفكاهة، كما أن الناس في الرواية مثاليون وهم يخوضون عبر اماكن وسط سحر الموسيقى. والبوصلة في الرواية تعني الاتجاه الصحيح، والشرق هنا مسلم، معتدل، بعيد عن التشدد، علينا التفكير في مسؤولية المفكرين خاصة أصحاب القلم الذين لم ينقلوا الينا -حتى الآن- الرؤية الأكثر واقعية، الصحيحة والعادلة حول التنوع الذي يعيش فيه المسلمون في الشرق. لقد عاش فرانز اغلب سنوات حياته بعيدا عن النمسا، واقام في مدن الشرق حتى عندما رجع إلى فيينا لم يشعر بالراحة، وانتابته مشاعر القلق، فلم ينم، وكي يأتيه النعاس لابد له أن يتذكر ايامه في الشرق، ففي مدن الشرق التقى مع حبيبته بعشاق المغامرة، والعلماء، والفنانين، كما قابلا الرحالة القادمين مثلهما من الغرب للعيش في افق الشرق، لقد حاول الكاتب أن يعدل بعضا من الصور التي صورها البض عن المستشرقين، الذين أحبوا هذه البلاد وقدموا لها الكثير، والدليل أن ماتياس اينار يكتب أكثر من رواية عن هذه البلاد، ويفوز بالجائزة عن آخر هذه الروايات، لذا فالرواية مكتوبة بما يشبه السيمفونية المتكاملة الممتزجة الألحان بطريقة كاتب يتقن اللغة العربية، وهو يعلق ان روايته بمثابة جسر بين الشرق والغرب، مبنية على العشق المقرون بالسحر القادم من الشرق. والرواية بمثابة رسالة إلى القارئ المعاصر عن عالم تيم به الغربيون في القرنين التاسع عشر والعشرين، فالشرق المستنير هو يؤلف الالحان ويتلذذها، ويستمع اليها. يقول الكاتب متحدثا عن نفسه «انا واحد ممن كانوا يسمون قديما بالمستشرقين. درست اللغتين العربية، والفارسية في معهد اللغات الشرقية وحاولت اعادة بناء التاريخ الطويل عن الحياة في الشرق، انا أشبه بأبطال رواياتي، جبت مصر، وسوريا، وايران، أحببت العواطف على طريقة الشرق، وسحرني العشاق الثنائيات مثل مجنون ليلى التي سبقت القصص الغربية الملتهبة في العشق مثل تريستان وايزولت». هذه الرواية سوف يقرأها الفرنسيون بشغف شديد، وسوف تترجم إلى عشرات اللغات، وسوف يفوز صاحبها ذات يوم بجوائز كبرى، سيذكر له أن الأدب قد أصلح كثيرا مما أفسدته السياسة والعنف الاجتماعي.