لم تمض سوى بضعة أيام على توليه مقاليد الحكم في البلاد حتى أصدر الملك سلمان منظومة من الأوامر الملكية التي من المنتظر أن تسهم إلى حد بعيد في رسم ملامح جديدة لمستقبل المملكة خلال الفترة القادمة؛ وسأحاول في هذه القراءة السريعة إلقاء الضوء على أبرز الأبعاد الهامة للأوامر الملكية التي كان من الملفت صدورها بسرعة على الرغم من انشغال خادم الحرمين الشريفين وأركان حكمه خلال الأيام الماضية باستقبال الوفود الرسمية والشعبية لتقديم واجب العزاء في وفاة الملك الراحل طيب الله ثراه. وبداية، يمكن القول أن شمولية الأوامر الجديدة وتنوعها واتساعها لا يمكن أن تصدر في معزل عن وجود رؤية استراتيجية عميقة، وقناعة واضحة وراسخة لدى الملك سلمان ترتكز على عدة محاور، من أهمها في تقديري الرغبة في إعادة هيكلة الدولة، والحرص على رفع كفاءة الأداء في الجهاز الحكومي، والمبادرة إلى ترشيد اتخاذ قرارات السلطة التنفيذية، هذا فضلا عن كون الأوامر تنطوي على معان وإشارات مهمة وذات دلالة كبيرة؛ في مقدمتها ترسيخ الثقة في العهد الجديد، وإرسال رسالة هامة للعالم مفادها استقرار بيت الحكم، وتثبيت أركان الدولة، وتعزيز مقومات الأمن، واستمرار نهج الإصلاح؛ على كافة المستويات. والمؤكد هو أن قرارات الملك تعكس حسه الإنساني الرفيع، وقربه الكبير من المواطنين، وتفهمه لمطالبهم، وشعوره بحاجاتهم، كما أن لها بعدها الإنساني الواضح الذي لا يمكن أن تخطئه عين منصف كونها تلبي الكثير من حاجات ومطالب شرائح عديدة من المواطنين؛ ولا سيما الشرائح الاجتماعية الأقل دخلا كالمستفيدين من دعم الضمان الاجتماعي وبرامج الجمعيات الخيرية، إضافة إلى المتقاعدين وذوي الاحتياجات الخاصة، في حين أن قرار صرف راتب شهرين لجميع موظفي الحكومة والطلاب على مختلف مستوياتهم الدراسية بما في ذلك المبتعثون ومرافقوهم سيكون له تأثيره البالغ على تعزيز الولاء بين القيادة والشعب وتوثيق أواصر اللحمة الوطنية. ولعل من أبرز ما يستوقف المراقب للأوامر الملكية الجديدة هو أنها تتماهى إلى حد بعيد مع متطلبات العصر المتسارع المتغيرات، وتستجيب لضرورات تحديث البلاد، حيث يمكن ملاحظة ذلك من إفساحها المجال أمام المزيد من القيادات الحكومية الأحدث سنا لتولي مواقع قيادية في الدولة، حيث تقل أعمار ثلاثة وزراء في التشكيل الحكومي الجديد عن 40 عاما (الدفاع والإعلام والعدل)، الأمر الذي يعتبر بمثابة ضخ قوي لرؤى وأفكار شابة في قلب المنظومة التنفيذية العليا في الدولة، إضافة إلى أنها تعني فهما عميقا لطبيعة التركيبة الديموغرافية في البلاد التي يشكل الشباب نحو ثلثي سكانها؛ وترتفع هذه النسبة باطراد. أما على الصعيد الاقتصادي والتنموي، فإن الأوامر الملكية لها مدلولها العميق الذي يدور حول تعزيز الثقة في متانة الوضع المالي للدولة، وتأكيد جدارتها الائتمانية، وتصنيفها الدولي المرتفع، وأحقيتها في الانتماء لمجموعة العشرين التي تضم أقوى اقتصادات العالم. من ناحية أخرى، فإن إنفاق 110 مليارات ريال وفقا لأوامر الملك من خارج بنود الميزانية التي تم الإعلان عنها مؤخرا يشير إلى قدرتها الاستثنائية على مواصلة مشروعات التنمية التي لم تتأثر كثيرا نتيجة لتراجع أسعار النفط، كما أن صرف مبلغ ضخم كهذا يطمئن الداخل السعودي على قدرة حكومته في إدارة المرحلة الحرجة بكفاءة عالية مدعومة باحتياطات نقدية ضخمة تناهز 2.8 تريليون ريال وبسياسات اقتصادية ومالية رصينة تحافظ على المكتسبات وتحجم المخاطر إلى أدنى حد ممكن. ولم تقتصر أوامر الملك على إعادة تشكيل مجلس الوزراء، وهو السلطة التنفيذية العليا في البلاد، بل تجاوزت ذلك إلى إحداث نقلة نوعية على الهيكل التنظيمي للحكومة كان من أبرز ملامحه حل العديد من المجالس واللجان السابقة وإنشاء مجلسين جديدين موسعين يختصان بالشؤون الاقتصادية والتنموية، والسياسية والأمنية، الأمر الذي من شأنه القضاء على الازدواجية، وزيادة فاعلية المخرجات، ورفع مستوى التنسيق بين مختلف الأجهزة. هذا التطوير الهيكلي اللافت من شأنه الارتقاء بقدرة بلادنا على مواجهة المخاطر الأمنية، والمزيد من الاستعداد والجاهزية للتحديات الاقتصادية وتلك المتعلقة بالتنمية. وثمة ملمح مهم آخر في الأوامر الملكية لا يمكن المرور حوله سريعا، بل ينبغي التوقف أمامه مليا لما له من تأثير مستقبلي كبير على بناء الإنسان السعودي هو المتعلق بدمج وزارتي التعليم في وزارة واحدة؛ لأن قرارا كهذا سوف يؤدي إلى تكامل السياسات التعليمية، والإسهام في تحسين المخرجات، ومعالجة الخلل المزمن المتمثل في انخفاض مستوى الكفاءة، وعدم مواكبته لاحتياجات البلاد من الموارد البشرية المؤهلة في التخصصات العلمية التي تتطلبها خططنا التنموية، هذا فضلا عن أن القرار سيساعد حتما على رفد سوق العمل السعودي بحاجته من الكوادر الوطنية المؤهلة، ومن المؤمل أن يسهم قرار دمج التعليم في التسريع بخطى توجه المملكة نحو اقتصاد المعرفة، ودعم الإبداع، والتشجيع على الابتكار، والتخلص من التلقين، والدخول لعصر التصنيع المتقدم والقيم المضافة. وعلى الرغم من أن الأوامر الملكية حفلت بالعديد من التغييرات الخاصة بالحكم المحلي في إمارات المناطق ، إلا أن ما استوقفني كثيرا هو الأمر الخاص بإعادة تعيين الأمير خالد الفيصل أميرا لمنطقة مكةالمكرمة لما ينطوي عليه ذلك من استثمار لمعرفة سموه الكبيرة بتحديات واحتياجات المنطقة، وقيامه باستكمال جهوده الملموسة في تطويرها وذلك بعد أن أمضى سبع سنوات أميرا لها ونجح في ترك بصمات لا يمكن تجاهل أهميتها نحو تحقيق رؤيته بنقلها لمستوى العالم الأول. ختاما، تظل هناك العديد من الأبعاد الهامة في الأوامر الملكية الجديدة التي كنت آمل التطرق إليها لولا ضيق المساحة، ومنها الأمر الخاص بالعفو عن سجناء الحق العام، ودعم بعض المرافق البنوية المهمة كالماء والكهرباء، وتحليل مغزى بعض التعيينات اللافتة كاختيار مدير عام قناة العربية وزيرا للإعلام، وهو ما يعكس الثقة في نهج القناة الذي دأب البعض على التشكيك فيه، هذا فضلا عن اختيار مسؤولين جدد لبعض المواقع المفصلية مثل هيئة نزاهة. والمؤكد في القرارات الملكية الجديدة هو أمران في تقديري؛ أولهما حنكة الملك وقدرته على إسعاد شعبه، وثانيهما عدم وجود توجه لإجراء تغيير مهم على سياسات الدولة؛ خصوصا في الوزارات السيادية التي لم يشملها تغيير الوزراء المسؤولين عنها. حفظ الله الملك.