كان فجر يوم من أيام أكتوبر ، عندما وجدت نفسي في مطار شارل ديغول، التفت حولي كان الفجر يحتضن باريس الفاتنة، أنا الآن في فرنسا، في أرض ديغول، وروسو، وموبسان، ومونيه، وشانيل، نظرت إلى اللوحات الزرقاء، لمحت جنرالا مهيبا ، إنه ديغول الذي أرسل نداءاته الوطنية الممتلئة بالهمة، وبالأمل، وبالدمع للفرنسيين من المنفى ، «فرنسا خسرت المعركة ، ولكنها لم تخسر الحرب» ، ليؤكد أن أصوات الأبطال الحقيقيين تصل ولو عن بعد ؛ ديغول الذي سمعت اسمه يتردد في بيتنا، عبر أمي التي تقدر بعمق وإجلال المخلصين الشرفاء لأوطانهم. أنا هنا أيها المخلص لأهل أرضك ديغول، أنا هنا في باريس الفاتنة، وأحمل كتابي الجديد عن كاتبة أمها تنتمي إلى الأمة فرنسا، كما يحلو أسماها ديغول. سرت باتجاه صالة المغادرة ، رأيت ملامح من جميع بلاد العالم، كلمات فرنسية بدأت تصافح مسامعي، (بنجور ، تو مي مونك)، أيادٍ بيضاء ، وحنطية، وسمراء، وداكنة تجر حقائبها المتحركة، وأكتاف تحمل حقائب صغيرة، زغاريد عربية، وورود لاستقبالات أحبة قادمين. خرجت من المطار ، وركبت السيارة، ومرتني باريس 1940، باريس التي انهمرت دموع عينيها وهي ترى الألمان يطؤون أوجان طرقاتها الحالمة، مرت بي ملامح حماة الأنصبة التذكارية الأبطال، الذين بددوا حلم هتلر بأن يدمر ثقافة إنسانية تبلغ الآف السنين، كما تداعت لي دمعة ذاك الرجل الذي بكى في ذلك اليوم. ارتعشت باريس الرقيقة، لم تصدق بأن أحد سيوجعها، وهي مدينة ابتسامات النساء، والعطر والموسيقى والفن .. وأنا أعبر طرقاتها، شعرت أن باريس ترحب بي.. أناسها، وأقواسها الباسقة، وذلك الجواد وفارسه، وبرجها العالي، وحافلاتها اللامعة، وسيارات الأجرة النظيفة. أطلت علي عيون بيوت عتيقة، وقفت ببهاء يتجدد أمام السنوات ، مرت عيناي بشرفات تتدلى منها زهور وأغصان خضراء ، خطوات بدأت تتحرك في الشوارع، وموسيقى هادئة تفتح أبواب المقاهي. ومعارض تفتح أياديها إلى العالم وتنادي العالم. مرت بي وأشعلت في أعماقي سؤالا عنها، يا باريس ،ترى، أين تلك التي علقت في غرفتي الصغيرة حقائب رحلاتها، وأشغلتني بها الكاتبة المهاجرة غادة السمان ؟. أفتقدها وتمتن ظلال فكري لها. بدا الفجر يودع حبيبته الوادعة بقبلة كسولة طويلة، تلك اللحظات صدقت ماقاله همنغواي «لو كنت محظوظا بما فيه الكفاية، فتكون قد عشت في باريس في صباك، وبعدئذٍ، فإن أي مكان تذهب إليه بقية حياتك، ستبقى معك» . أكتوبر 2014 ..