تاريخيا وقبل ظهور الإسلام وتمدده وانتشاره خارج ربوع الجزيرة العربية ليشمل مناطق واسعة في العالم (آسيا وأفريقيا وأوربا) القديم، شكل مسيحيو المشرق غالبية السكان الأصليين في بعض البلدان كمصر والشام والعراق، وقد حافظوا على هذه الأكثرية على مدى قرون بعد الفتح الإسلامي، وباستثناء بعض الفترات العصيبة عاش المسيحيون والمسلمون بشكل عام في وئام وسلام، وفقا لنواميس وطبيعة تلك الحقبة، ونستحضر هنا العهدة العمرية التي قدمها الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه للمسيحيين حين دخل سلما مدينة إيلياء (القدس) والتي جاء فيها: هذا ما أعطى عبد الله أمير المؤمنين (عمر بن الخطاب) أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من خيرها ولا من صلبهم ولا من شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم. هذه الأمثولة العمرية يتعين أخذها في سياق موقف الإسلام من موضوع التسامح والقبول بالآخر المختلف، حيث نصت وشددت العديد من الآيات القرآنية على ذلك ومن بينها {لا إكراه في الدين} الآية 256 سورة البقرة. {ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل} سورة الأنعام الآية (107). {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} الرعد الآية 40. {فإن تولوا فإنما عليك البلاغ} الآية 256. هذه الصورة المشرقة للإسلام الحضاري المتسامح والمنفتح إزاء الآخر اهتزت وتضررت إلى حد كبير نظرا للممارسات الإرهابية وعمليات التدمير والقتل الهمجي وبدماء باردة وفقا للهوية (الدينية والمذهبية والإثنية) في حرب الجميع ضد الجميع، وعلى النحو الذي شهدنا ونشهد تداعياته في العديد من البلدان والمجتمعات العربية كما هو الحال في العراق ولبنان واليمن والسودان ومصر وسورية والصومال والجزائر والقائمة قد تطول وتمتد ما لم تتخذ التدابير والإجراءات الجذرية الواقية. نال المسيحيين في المشرق كغيرهم من مكونات المجتمع الكثير من الأذى والضرر والخوف على حياتهم وممتلكاتهم وكنائسهم ودور عباداتهم جراء اتساع وطأة هذا الصراع الدموي العبثي. ضمن هذا المنحى أتت تفجيرات يوم الأربعاء الماضي التي استهدفت كنيسة «ماري يوحنا» والمسيحيين الأشوريين في منطقة الدورة جنوبي بغداد أثناء احتفالهم بأعياد الميلاد، مخلفة عشرات القتلى والجرحى، والتي جاءت في سياق عمليات وهجمات مركزة تعرض لها المسيحيون وكنائسهم في العراق منذ الاحتلال الأمريكي في عام 2003، ونستذكر هنا مجزرة كنيسة « سيدة النجاة» للسريان الكاثوليك التي تبنتها منظمة القاعدة في بلاد الرافدين في عام 2010، وذهب ضحيتها المئات من القتلى والجرحى. كما تكررت أعمال القتل والتدمير ضد كنائس وأديرة المسيحيين الأقباط ومرتاديها في مصر ومن بينها تعرض كنيسة القديسين «مار مرقص الرسول» والبابا «بطرس خاتم الشهداء» أثناء احتفالات السنة القبطية في عام 2011. وفي سورية بات المسيحيون يعيشون خوفا حقيقيا ومحنة ومخاطر وجودية هي الأشد في تاريخهم منذ العهد الروماني. كل ذلك أدى إلى اتساع نطاق هجرة المسيحيين من بلدانهم الأصلية، فقد انخفض عدد المسيحيين في العراق من 2.1 مليون في عام 1990 إلى 200 ألف اليوم. وهو ما دفع البابا فرانسيس بابا الفاتيكان للقول: إن الكنيسة الكاثوليكية لن تقبل بشرق أوسط خال من المسيحيين؛ وذلك في كلمة ألقاها في الفاتيكان في شهر نوفمبر الماضي أمام جميع بطاركة الكنائس الشرقية وأساقفتها، وكان قادة دينيون من كنائس عدة دول في الشرق الأوسط، من بينها مصر، والعراق، ولبنان، وسورية قد التقوا البابا في الفاتيكان لاطلاعه على مخاوفهم والمشاكل التى تواجهها الأقليات المسيحية في المنطقة. واعتبر البابا أن المسيحيين في عدد من مناطق الصراع في الشرق الأوسط يجدون أنفسهم مضطرين للفرار من ديارهم مؤكدا أنه لا يستطيع أن يتخيل الأراضي التى عاش فيها المسيح دون وجود مسيحيين. بدورها حذرت وزيرة الدولة لشؤون الأديان والجاليات في وزارة الخارجية البريطانية، البارونة سعيدة وارسي، من أن المسيحيين يواجهون خطر الانقراض في بلدان مهد الدين المسيحي في الشرق الأوسط، بسبب تصاعد موجة الهجمات الطائفية. وكتبت الوزيرة البريطانية المسلمة من أصول باكستانية في مقال في صحيفة ديلي تلغراف أمس أن هجوما طائفيا استهدف كنيسة في باكستان مما أسفر عن مقتل 85 من المصلين في سبتمبر الماضي (أيلول)، في حين استهدف هجوم مسلح حفل زفاف للأقباط في مصر من قبل المتشددين الذين حولوا دينا ضد آخر وطائفة ضد أخرى. إن الحل الجذري والحقيقي لمشكلة المسيحيين وغيرهم من المكونات الدينية والمذهبية والإثنية لن يتحقق إلا من خلال إرساء مقومات الدولة المدنية الحديثة التي تستند إلى الدستور والمشاركة الشعبية، وتجسيد المواطنة المتساوية للجميع في الحقوق والواجبات. [email protected]