غاب (عبدالله) عن أسرته لحد صار باعثا على القلق والريبة. افتقده أقرانه، واستوحشت ممرات الجامعة التي كانت تضج بوداعته، وهو يخطو أولى سنوات تحصيله العلمي. فجأة، وفي مساء قاهر، فجعت أسرته بظهوره جثة، من بين أكوام ضحايا مواجهة شرسة بمخيم نهر البارد. عبدالله الذي لا تعرف أسرته عنه إلا أنه اختفى قبل شهر من تلك اللحظة القاتمة والمليئة بالمرارة، التي عرفوا فيها أنه صار جثة بين أكوام من جثث دعاها تغرير ضل طرقه، حين كان يداعب طفلة أخته المتعلقة به، لم يدر في أذهان أسرته أن ابنهم سيكون أحد أولئك الشباب الذين تغيروا، وأنه سيشكل خطرا على العالم. لكن لا أحد يستطيع الجزم بأن عبادي كان متابعا لتلك المؤتفكات، لينقاد لفخاخ النار، ولبقي وادعا، يداعب طفلة أخته التي يبادلها الحب، وعلى معالم بسماتها كل صباح، يغادر منزل الأسرة الصغير في تشعبات الملاوي إلى أحلام الجامعة، بعد أن يكون قد ترك شيئا ملتصقا بالروح من «زومال» البارحة.. «وإن كنت ناوي تعال أدلك درب الملاوي من تحت ظلك». منيرة التي تكبره بعشرة أعوام، انسلت من بين الأسرة المتابعة للخبر/ الفجيعة، واحتضنت طفلتها، شامة فيها عبقه، وراحت تهمس لأبيها المسن، ترد على استغرابه البريء والفطري، الذي صاغه في نبرة استنكار (ويش يودي عيالنا لهناك!)، فيما المذيعة الحسناء، وبصرامة عسكري متجهم تهدر عبر الشاشة.. (مصادر أمنية لبنانية رجحت وجود مقاتلين سعوديين ضمن الجماعات الفلسطينية في مخيم عين الحلوة في مدينة صيدا، يضافون إلى نظرائهم في مخيم «نهر البارد»). يسود صمت تام، كل عيون الأسرة تحدق، مصيخة السمع.. (وكشفت مصادر قنصلية سعودية وأخرى أمنية لبنانية أن عدد القتلى من السعوديين يتراوح بين 8 و10 أشخاص، فيما بلغ عدد المعتقلين لدى السلطات الأمنية والعسكرية اللبنانية نحو أربعة. وتحفظت المصادر على ذكر عدد السعوديين في مخيم عين الحلوة، الذي يعد أكبر المخيمات الفلسطينية في لبنان). تتناهي من مسافات بعيدة، أيام كان عبادي يراقص بزوماله إيقاع العلبة وكأن النار تندلع من قلبه، فتصهر حنجرته لتسيل في آخر الليل شجنا يودع: «جوش المسرى.. يا وليييييد نبغى نسري يا ولييييييد». فمضى عبادي نحو حنان أبيه الذي أورثه نبل «شيلة الزومال» بنبرة فرح.. كان صبيا كريحانة فواحة بالحياة تبتسم رغما عن شمس مكة.. وكان أبوه لم يبارح صبوة الشباب، وعشق النبوت. تنطلق آهة حرى من والد عبدالله قبل أن يحوقل (لا حول.. لكن عبدالله ما له لحية، توه صغير!!). تتتابع نشرة التلفزيون. يتأفف الأب مرددا: لقد أشغلنا عبدالله. تذكر أنه قرأ رسالة منه قبل شهرين، وقعها بكنية المهلب أبو عمار، لم يتعامل معها بجدية وحزم مفادها، أنه «ذاهب إلى الجهاد، لطلب الآخرة». مذيلا رسالته بأن «الجهاد» سيمنحه «فرصة الزواج من الحور العين». نهض واقفا، وهو يبصق على المذيعة الحسناء، متذمرا، حانقا، يسب كل الدنيا. أشعل سيجارة، وحين أقبلت حفيدته، ضمها وهو يقذف بالسيجارة ومعها منفضة السجائر نحو الجدار، أعلى من منصة التلفزيون. راح يمطرها قبلا، وطفق يبكي. من مجموعة (نداءات الأزقة الأخيرة) قيد الصدور.