الاختلاط العرقي بين العرب والأفارقة في السودان أوجد مناخا ثقافيا وإبداعيا له هويته وتميزه الخاص. لكن تلك الخصوصية في جغرافية السودان الثقافية والعرقية أدت بدورها إلى خلق تلك الفجوة، أو بناء ذلك الجدار الذي ظل يفصل بين المبدع السوداني والمتلقي العربي والأفريقي! .. الوضع هنا شبيه بأغنية سودانية لا يطرب العرب كثيرا للحنها لأنها تنتمي إلى سلم موسيقى آخر غير الذي تعودوا عليه، بينما لا يستطيع الأفارقة ترديدها لأن كلماتها باللغة العربية! .. ونتيجة لاختلاف الثقافة السودانية (العرب أفريقية) عن غيرها في معظم البلدان العربية والأفريقية ظل المبدع السوداني محروما من نعمة الانتشار عربيا وأفريقيا، وبقي بعض من لا تنطبق عليهم هذه القاعدة مجرد استثناء آخر لتأكيدها!.. ولعل الطيب صالح هو أشهر تلك الاستثناءات باعتباره الروائي السوداني الوحيد الذي وصل إلى العالمية. غير أن بعض المبدعين السودانيين يرون (مع كامل احتفائهم بعبقرية الطيب صالح التي ليست محل جدال) أن تمجيد معظم العرب لأعماله هو في أغلب الأحوال انعكاس لانتشارها عالميا، واحتفاء الآخر المغاير بها، الأمر الذي يفسر كونه الروائي السوداني الوحيد تقريبا الذي يعرفه العرب جيدا .! كسل الإعلام وانتقائية النقاد الروائي والقاص السوداني عبد العزيز بركة ساكن أحد أعلام الرواية السودانية. يقول «إن الكثير من الأدباء السودانيين لم يدخلوا معطف الطيب صالح في الأصل، الذين تربوا على مدارس كتابية مختلفة، ونشأوا في بيئات غير بيئته، واختلفت نظرتهم للعالم عنه، واعتبر نفسي أحد هؤلاء الذين لم يكن الطيب صالح عليه الرحمة سقفا لكتابتي، وذلك مع بالغ احترامي وتقديري له، ولما قدمه للعالم من أعمال عظيمة» ويندرج تحت ذلك الروائي إبراهيم إسحق وأمير تاج السر وغيرهم، بل حتى الروائي الكبير عيسى الحلو الذي أطلق مقولة (الطيب صالح سقف الرواية السودانية) لم يكن الطيب صالح سقفا له، والغريب في الأمر أن الطيب صالح نفسه لم يكن يرى في نفسه ذلك، لقد كان طيبا ومتواضعا ومتسامحا جدا. ويرى الروائي عبد العزيز بركة ساكن «أن المشكلة هي الإعلام العربي الكسول الذي لا يكلف نفسه جهد المغامرة والبحث، كما أن النقد أيضا غالبا ما يكتفي بما يتوفر لديه من تحققات، فعلى النقاد والمثقفين أن يخرجوا هم من معطف الطيب صالح لينظروا للتحققات الجميلة الأخرى، ولقد بدأ هذا يحدث بالفعل.» غياب المؤسسية وضعف النشر والتوزيع وحول غياب الرواية السودانية من المشهد العربي خارج حضور مؤسسة الطيب صالح تقول الأديبة السودانية رانيا مأمون «إن الأسباب شتى، أولها الإعلام سواء كان المحلي السوداني أو العربي الذي لا يعرف سوى الطيب صالح والذي ينظر للسودان باعتباره «بلد هامش ثقافي» لا يمكنه أن يأتي بمثله، والطيب صالح اسم كبير وكاتب كبير نفخر به جميعا، ولكن هناك غيره سواء كتاب قبله أو بعده لم يجدوا حظهم من القراءة والانتشار، ومن الأسباب أيضا عملية النشر والتوزيع فرغم أن دور النشر السودانية تشترك بمعارض كتب عربية وإقليمية إلا أن توزيعها للكتاب ضعيف ويقتصر على مكتبات الخرطوم ومدن قليلة أخرى، ناهيك عن مشاكل الطباعة وجودتها. وكذا مما أسهم في غياب الرواية السودانية دور المؤسسة الرسمية التي لا تعنى بالثقافة والأدب، ثم هنالك الكاتب نفسه والذي لا يقدم نفسه ويسوق لها.» أيقنة الرموز وتواضع المبدعين الأديب والكاتب الصحفي عبد الله الطاهر يقول «إن المبدع السوداني متواضع جدا وغير واثق من نفسه بطريقة غريبة، وأن المجتمع السوداني كله هكذا!، في الأدب الطيب صالح فقط، وفي السياسة الأمة والاتحادي فقط .. وهكذا .. هي مسلمات يصعب اختراقها، وهناك كتاب كثيرون لكنهم مقلون في الإنتاج ولا يهتمون كثيرا بالعلاقات العامة ولا يقدمون أنفسهم بالصورة التي تليق بها في الأوساط العربية والأجنبية، لذلك نحتاج إلى وقفة الدولة مع المبدعين ونحتاج إلى وقفة الأدباء والكتاب مع أنفسهم، ليس لدينا كاتب أو أديب متفرغ مثلما فعل مثلا نجيب محفوظ الذي تفرغ للكتابة فقط .» المقارنة خط أحمر الناقد الأدبي محمد الربيع توكل على الله وتجرأ على المقارنة بين تجربتي الطيب صالح والأديب السوداني الشاب محسن خالد مؤكدا أنهما يقفان على قدم المساواة كروائيين تعرضا للصلب على أعواد الاجتراء على الأخلاق في بناء شخصياتهم الروائية. أما الروائي السوداني الشاب محسن خالد نفسه فيقول «إن لكل مجتمع أخلاقه وطرائق سلوكه وتعبيره، وأن موضوعات الرواية كفن يجب أن تناقش على أساس أنها فن وكفى، فالمجتمعات بطبيعتها تحمل تمايزا، والفنانون يعبرون على رؤاهم تجاه المجتمع، فهل الفنانون مطالبون بالحقيقة أم بالأقنعة.» ؟! نعمة ونقمة في آن معا خلاصة قول هؤلاء الأدباء وأولئك الكتاب هي أن السودان فيه مبدعون آخرون يتمنون أن يقولوا للعالم شيئا ويمكن أن يشكل انتشارهم إضافة نوعية للأدب الروائي لكن القارئ العربي لا يعرفهم وليس لديه استعداد كاف ليفعل، وهم قابعون في غياهب التجاهل لأن الحظ لم يحالفهم فتترجم أعمالهم إلى اللغة الإنجليزية كي يتلقفها القارئ العربي باهتمام بعد أن ترد إليه ردا جميلا! .. لأجل هذا قد يكون كل ذلك التمجيد والاحتفاء العربي بمنجزات الطيب صالح الأدبية نعمة ونقمة في آن معا! في تقدير المبدع السوداني الذي يتمنى أن يقول للعالم «شيئا يذكر» لكنه مكبل باحتكار الطيب صالح لفكرة الإبداع الروائي السوداني في ذهن القارئ العربي .