قبل نحو عامين وبالتحديد في الدورة 72 لاجتماعات أعضاء هيئة كبار العلماء، أقرت الهيئة مشروع التقنين حيث أجازه أعضاؤها بأغلبية كبيرة، وبعد ذلك عقدت اجتماعات من لجان متعددة لوضع التصور النهائي وصياغة المشروع الريادي الكبير الذي يعول عليه إحداث التقدم والرقي في القضاء السعودي. وهنا يوضح أستاذ القانون، الدكتور زياد القرشي، أن من شأن التدوين: «أن يحقق مصالح العباد ويسهل عليهم الوقوف على أحكام الشريعة المطبقة في المحاكم دون الحاجة إلى الرجوع للآراء الفقهية المتعددة الموجودة في كتب الفقه الإسلامي التي لا يستوعبها إلا الفقهاء المتخصصون»، معتبرا أن تقنين قواعد الفقه الإسلامي: «سيسهل على القضاة مهمة البحث في الآراء المتشابهة الصعبة المنال ويوفر الكثير من الوقت الذي يقضيه القضاة للتوصل للرأي الراجح». ويتابع: «من شأن التدوين أن ييسر على الفقهاء شرحه ومقارنته بأنظمة الدول الأخرى. كما أن تدوين أحكام الفقه الإسلامي سوف ييسر دراسة وتدريس الشريعة الإسلامية، ويعزز الانضباط في صدور الأحكام». لكن ماذا عن ما يثار حول إيقاف التدوين لباب الاجتهاد؟ يرى القرشي أن التدوين: «لن يوقف الاجتهاد، بل هو عمل بشري قابل للتغيير، متى ما تغيرت الظروف واقتضى الأمر فمن الممكن تعديل النص المقنن بما يتناسب مع المصلحة، وما لا يتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية الغراء». ويجزم القرشي أن المملكة: «تستطيع بما لديها من إمكانيات مادية وبشرية، أن تقدم خدمة ليس لنفسها فحسب بل لمختلف الأقطار الإسلامية. كما أن تقنين قواعد الفقه الإسلامي سوف يزيد ثقة من يتعامل معنا في أنظمتنا ويعزز ثقتنا في قضائنا ويحول دون فتح المجال أمام المغرضين لتوجيه أسهم النقد للقضاء الشرعي والتشكيك في نزاهته وسموه»، ذاهبا إلى أن صياغة الفقه بهذه الطريقة: «سوف يعطينا الفرصة لنتمكن من تطبيق الشريعة الإسلامية بطريقة تضمن تحقيق العدالة وتضمن التحقق من صدور أحكام قضائية مستندة إلى الرأي الراجح المؤيد بالدليل الشرعي». ويبين القرشي انه: «بخلاف المحاكم الشرعية التي لا تطبق إلا أحكام الشريعة الإسلامية، فإن الهيئات القضائية السعودية الأخرى تطبق أنظمة لا تخرج على الأحكام القطعية في الشريعة الإسلامية»، مستشهدا بنظام توزيع الأراضي البور الصادر عام 1388ه ونظام المرافعات الشرعية الصادر عام 1421ه بكل أحكامه المتعلقة برفع الدعوى وقيدها وإجراءات الجلسات ونظامها ووقف الخصومة وانقطاعها وتركها وإجراءات الإثبات وطرق الاعتراض على الأحكام وتنحي القضاة وردهم عن الحكم: «فهما يعتبران نموذجين لتقنين قواعد الفقه الإسلامي». ويستدرك بالقول: «لكننا نجد أن هناك مسائل أخرى في الفقه الإسلامي لم يتم تقنينها بعد، ونحن حينما نتحدث عن التقنين لا نتحدث عن تقنين العبادات بل ما نحتاج إليه هو تقنين الأمور المتعلقة بالمعاملات الشرعية وفقه الأحوال الشخصية». ويضيف: «صياغة الفقه في صورة مواد قانونية أخذا بالقول الراجح المعتمد على الدليل سوف يجعل بلادنا مثالا يحتذى لا للبلاد الإسلامية وحسب، بل للعالم أجمع». ويتفق الفقيه الدكتور عبدالرحمن الجرعي، الذي يرحب بمبادرة تدوين الأحكام الشرعية للقضاء، مع ما ذهب إليه الدكتور القرشي: «لا سيما وان أقدر البلاد على ذلك هي المملكة كما قاله الدكتور وهبة الزحيلي وذلك لأنها تطبق الشريعة الإسلامية، وهي أساس الحكم فيها. وأيضا لانتشار العلم الشرعي بين أبنائها. وكذلك وجود الجامعات التي تحوي كليات الشريعة المتعددة بما فيها من علماء وأساتذة وباحثين. وبذلك سيكون عمل التقنين الذي تتولاه المملكة نموذجا يحتذي به في العالم الإسلامي». وحول آلية التدوين يشرح بالقول: «عند كتابة مادة التقنين تبحث المسألة من قبل القائمين على كتابة المواد وتستعرض الأدلة وأقوال العلماء فيها، ويختار القول الراجح بناء على قواعد الترجيح المعروفة في علم أصول الفقه دون الالتزام بمذهب معين، وعند الاختلاف يؤخذ بالأغلبية كما هو الحال في قرارات هيئة كبار العلماء والمجامع الفقهية، ثم تصاغ المادة بناء على القول الراجح، ويشارك القانونيون، في هذه الصياغة، خوفا من الالتباس أو سوء التفسير، وتستخدم الألفاظ الشرعية قدر الإمكان. كما يطالب الجرعي بأن: «توضع لمواد التقنين مذكرات توضيحية، تفصل الحالات وتذكر الاحترازات، وتستدرك ما لم تتضمنه هذه المواد من التفصيل. على نفس الطريقة التي اتبعت في كتابة المواد، فيما يجب أن تخضع مواد التقنين للمراجعة بعد مرور وقت كافٍ، يؤخذ فيه رأي القضاة وأهل العلم الذين يقدمون مسوغات كافية لإعادة النظر في المواد التي قيدت، وكذلك المحامين والمهتمين بشأن القانون عموما». في المقابل، يستند المعارضون للتدوين، إلى أن هذا الأخير: «لا تؤمن عاقبته، ونتيجته غير مضمونة، ويفضي إلى فصل الناس عن مصادر شريعتهم وثروة أسلافهم الفقهية». من جانبه، يؤكد المستشار القانوني محمد المحمود أن عدم تقنين أحكام الأحوال الشخصية في المملكة ساهم في إحجام كثير من النساء من التقدم بدعاوى قضائية لرفع الظلم عنهن؛ سواء كانت دعاوى فسخ من أزواج منحرفين، أو دعاوى خلع من أزواج تخاف المرأة ألا تقيم معهم حدود الله، أو دعاوى طلب حضانة أو نفقة، بل وحتى المطالبة ببعض الحقوق المقررة لأولادها في حال الطلاق، كالمطالبة بالهوية الرسمية لتسجيل الأولاد في المدارس وكذلك مراجعة المستشفيات، تخوفا مما قد تسفر عنه الدعوى القضائية من نزع حضانة الأولاد منها بظنّها عدم وضوح النظام في ذلك وتركه لاجتهاد القاضي المطلق. وأوضح أن عدم تقنين الأحكام الشخصية يجعل الأمر في ضبابية، فتحجم المرأة عن المطالبة بحقها إيثارا للسلامة وعدم تدهور الأمور للأسوأ، مضيفا أنه حتى عند طلبها الاستشارة القانونية في هذه المسائل تجد أن المستشار لا يجزم لها بشيء؛ لعدم وجود مواد صريحة تلزم القاضي بالعمل بها ويترتب على مخالفتها بطلان، فيمضي عمر المرأة وهي في حيرة من أمرها صابرة على مضض تترقب الخوف في أي لحظة، مشيرا إلى أنه لا يوجد في تقنين أحكام الأحوال الشخصية أي محذور؛ إذ هو خلاصة لما يمكن العمل به من الأدلة والأحكام بشكل مناسب، إضافة إلى أنه تحديد لأبعاد الحكم الشرعي، وبيان لمسايرة الشريعة الإسلامية لمصالح العباد وصلاحيتها لكل زمان ومكان، بل ويسهل على المحاكم تطبيق الشريعة الإسلامية، ويقطع دابر احتمال التضارب في الأحكام، إلى جانب أنه يعاون القاضي والفقيه وكل مشتغل بالأنظمة على الاهتداء إلى القاعدة النظامية في يسر وسهولة، إضافة أنه يسهل على الأفراد التعرف على أحكام الشريعة الإسلامية، مؤديا إلى حسن سير العدالة، نتيجة إلمام الأفراد بقواعد النظام وتطبيقه على علاقتهم الاجتماعية المختلفة.