بعد عام سال فيه الدم غزيرا ولم ينل منه الإعلام إلا عزيزا، لم تعد ثمة حاجة لإثبات أن إسعاف الجريح أو انتشال جثة من تحت الأنقاض أو تقديم أي خدمة طبية بات النظام يعتبرها جرائم قد تودي بفاعلها إلى حيث لا ينفع إسعاف ولا علاج. هذا مصير من يضبط متلبسا بحيازة ضماد طبي أو عقار دوائي أثناء أي مغامرة للدخول إلى بابا عمرو. من يصر على التزود بالأدلة يكفيه أن يتابع إعلام النظام وهو يفخر بمناقب جيشه (الباسل) عندما يدك آخر قلاع الإنسانية المتمثلة في مشفى ميداني ذي إمكانيات متواضعة لتقديم ما تيسر من إسعافات أولية لضحايا قصف الجيش، إذ كان أول من تعرض للقصف الصاروخي على الحي. ناشط متطوع في مشفى ميداني قريب من الحي كشف ل«عكاظ» عن طرق عجيبة غريبة لإخفاء الأدوية أكثرها طرافة طمرها في مقبرة داخل قبر نصب شاهدا عليه باسم معين، لتتكرر عملية نبش القبر كلما اقتضت الحاجة إلى الدواء. التقينا الطبيب محمد المحمد الذي حفظ العالم صورة وجهه ونبرة صوته إثر ظهوره المتكرر على القنوات التلفزيونية الفضائية باكيا وشاكيا ظروف المهنة الإنسانية وممارسات النظام البعيدة عن القيم الأخلاقية. يحدثنا المحمد عن تجربة لم يخفف من مرارتها سوى إنقاذ حياة الكثير من الأبرياء أثناء الهجمات الأخيرة على حي بابا عمرو المنكوب.. ويقول: «رغم يقيننا بهمجية قوات النظام، لم نكن نتوقع أن تكون الهجمة على المشفى بهذا المستوى من الإجرام» ويصف مشهد نتائج الهجوم الصاروخي يوم الأحد الخامس من فبراير الماضي والإصابات المتقاطرة بكثافة إلى المشفى الغارق بدماء ثلاثة من أصل 25 شخصا تطوعوا ليشكلوا الكادر الطبي فيه، إضافة إلى تسع إصابات كان بينهم الناشط خالد أبو صلاح. ومن الطبيعي مع اشتداد شراسة الهجمات حسب الطبيب المحمد أن تتضاعف أعداد المصابين حيث كان يستقبل المشفى بتجهيزاته المتواضعة نحو 60 جريحا كمعدل يومي، لكن الأهم من العدد كان اختلاف نوعية الإصابات «فصرنا نرى بترا للأطراف العلوية والسفلية وإصابات متعددة بالبطن، وحالات كثيرة شهدت تهشيما في الرأس». حالات مأساوية ويشرح تفاصيل أصعب الحالات التي عاينها وكانت لطفلين أصيبا يوم قصف المشفى أحدهما بترت ساقه اليمنى بشظية صاروخية دمرت جزءا من منزله، وآخر أصيب بطلقة متفجرة في فمه تسببت بتهشيم فكيه، إضافة إلى طفلتين في اليوم نفسه الأولى تفجرت إحدى عينيها في حين كان نصيب الثانية شظايا متعددة بالجذع. ويؤكد المحمد تكرار الحالات الحرجة من هذا النوع بكثرة، الأمر الذي يتجاوز الإمكانيات المتواضعة للمشفى مما أجبر الناشطين على نقل المصابين إلى خارج بابا عمرو، لا بل خارج سورية في مغامرات تهريب رهيبة شديدة الخطورة، فلم يسلم بعضها من الإصابة أيضا مثل ما حصل أثناء المحاولة الأولى لإخراج الصحفيين الأجانب، حيث استشهد عدد من الناشطين (10 13 ناشطا) وجرح آخرون. «لم نكن نخطط لأي شيء كنا نخرج من المشفى حوالى الثالثة صباحا ولا نلبث أن نستدعى بعد ثلاث ساعات»، هكذا يصف د. محمد البرنامج اليومي لعمل الكادر الطبي كاشفا عن تصميم شديد منحهم قدرة على الصبر بلا حدود مع 20 ساعة عمل دون توقف أو كلل أو ملل تتخللها وجبة طعام واحدة فقط، في حين كانت تقتصر ساعات النوم على ثلاث ساعات تسبقها جولات تفقد ومتابعة للجرحى الذين تمت معالجتهم والمتواجدين في بيت قريب من المشفى. كاشفا عن تصميم شديد منحهم قدرة على الصبر بلا حدود في حين كانت تقتصر ساعات النوم على ثلاث ساعات تسبقها جولات تفقد ومتابعة للجرحى الذين تمت معالجتهم والمتواجدين في بيت قريب من المشفى. ويكشف الطبيب المنشق عن الخدمة الإلزامية عن تقسيم العمل إلى ورديتين في محاولة لم يكتب لها النجاح بسبب تزايد عدد الجرحى، مشيدا بأداء زملاء العمل ال22 بينهم ثلاثة أطباء وخمس ممرضات يصفهن بأنهن «كن أخوات الرجال» في تلك المهمات الجليلة. (طبيب الثورة) لقب لم يرق لابن بابا عمرو، لأنه بكل بساطة يرى أنه لا يستحقه وهو الذي لم يسهم حسب قوله إلا بما نسبته 1% من العمل الجبار الذي كان أبطاله كل أفراد الكادر الطبي الذي ضم جنودا مجهولين سواء من الأطباء الذين لم يظهروا على الأضواء أو من أولئك الناشطين الذين كانوا يغامرون بحياتهم لتوفير ما يلزم من أدوية وأدوات لمشفى اقتصرت تجهيزاته على غرفتي إسعاف وعمليات بسيطة وجهازي مونيتور وتخدير قديمين. ولا ينسى المحمد دور من أسماهم «شباب الإعلام» في هذا المجال. وسبب آخر يعلل به المحمد عدم استحقاقه اللقب يتمثل بما يعتبره الالتحاق المتأخر بالثورة بعد حسمه قرار انشقاقه عن الجيش، رغم أنه لم يكن يتوان حينها عن إسعاف وعلاج جرحى المظاهرات في الكثير من بيوت الحي. وفي الوقت الذي قد يبرر فيه المحمد أن يكون الطبيب المطلوب رقم (1) لأجهزة الأمن والمخابرات السورية بسبب انشقاقه عن الخدمة الإلزامية، فإنه يستهجن لا بل يستغبي ملاحقته كطبيب يعالج الجرحى من قبل نظام لم يستح من التفاخر والمباهاة بتدمير مشفى ميداني «فهل بعد هذا الإجرام إجرام؟ !». الهلال الأسود لا يتردد د. محمد في الغمز من قناة فرع منظمة الهلال الأحمر السوري في حمص مشيرا أنه «لم يتدخل كما يجب» لنقل الجرحى من ضحايا القصف في بابا عمرو، ويذهب بعيدا في اتهامه بالتحول من منظمة إنسانية إلى ساعي بريد ينقل رسائل النظام، ومنها اشتراطه لإسعاف المصابين حمل هوياتهم غير آبه بظروف ينتشل فيها الناس من تحت الأنقاض دون أن يلتفت أحدهم لما يثبت شخصيته «فهو قبل كل شيء إنسان له الحق بالحياة». إضافة إلى شروط من قبيل ألا يتجاوز عمر الذكر 15 عاما. المحمد أكد أن كلمة (بابا عمرو) على الهوية شرط كاف لاعتقال أي رجل كاشفا عن اكتفاء الهلال الأحمر بإخلاء بضع من الأطفال والنساء كانوا رفضوا الخروج معه في زيارة سابقة خشية الاعتقال. وشهد الحي زيارتين إضافيتين للهلال الذي وصفه بأنه أسود نقل خلالهما بعض العائلات العراقية، وعددا من المسنين زيادة على سبعة جرحى من حي الإنشاءات. ثم لا يلبث أن يتراجع د. محمد عن اتهامه فرع الهلال الأحمر بالتخاذل والتواطؤ مذكرا بأن منظمات أكبر وأكثر سلطة وسمعة عجزت أمام جبروت النظام وظلمه، مدللا على ذلك بمحاولات الصليب الأحمر ومنظمات إنسانية أخرى الدخول إلى بابا عمرو دون جدوى. بابا عمرو صامد «لم يدمر النظام إلا الحجارة والجدران، الكثير من الأبنية والبيوت السكنية سقط في بابا عمرو لكن رأسها ظل مرفوعا، والجانب المعنوي والنفسي لم يتزعزع لدى الثوار الذين خرجوا من الحي متشوقين للرجوع إليه والمعركة كر وفر». هكذا يلخص طبيب الثورة نتائج ما حصل في بابا عمرو عازيا سبب انسحاب الجيش الحر إلى الانتقام المقصود لجيش النظام من المدنيين، حيث لم يكتف باستهدافهم في الحي بل لاحقهم بصواريخه ومدافعه ودباباته إلى أماكن نزوحهم في حيي السلطانية وجوبر ثم بعض القرى القريبة «ولولا ذلك لصمدنا شهورا». وذلك لم يمنع الطبيب الثائر من اعتبار النتيجة نصرا للثوار الذين صمدوا أمام جبروت قوات النظام بأقوى وأعتى أسلحتها الثقيلة ولمدة 27 يوما، خاصة في الأيام الثلاثة الأخيرة «حين تغيرت طريقة القصف من حيث نوع الأسلحة وكثافة القذائف فصرنا نرى هبوط ستة صواريخ دفعة واحدة طول بعضها يتجاوز المترين». ويخالف المحمد من يرى أن معركة بابا عمرو قصمت ظهر الثورة بنتائجها معتبرا أن النظام هو من تلقى الضربة القاسمة عندما منحت بابا عمرو المدد لباقي الثوار فأعطت دروسا في الصمود سرعان ما ترجمت على أرض الواقع في المحافظات والمناطق الأخرى. ويتوقع أن تستمر الثورة عاما آخر مؤكدا حاجة الجيش الحر لسلاح نوعي، واعتبر أن الإخلاص والابتعاد عن الأنانية أهم أسباب النصر لافتا إلى أن سقوط بشار الأسد لا يشكل سوى جزء بسيط من أهداف الثورة وتحدياتها «لأن المرحلة المقبلة أصعب». ويستبعد أي عمليات انتقام بعد نجاح الثورة لأن «قضيتنا ليست قضية خلافات شخصية ولا طائفية» ويقول.. «شعبنا الطيب سيكبر على جراحه» بعد سقوط النظام الذي يراه «جائزة كبرى تبعد الناس عن التفكير بجوائز الترضية».