الحديث عن مدينة الظهران لا يشبه الحديث عن أي مدينة أخرى في المملكة؛ ليس للتركيبة السكانية أو العادات الاجتماعية علاقة بهذا الاختلاف، ولكن لأن الظهران كانت الحاضنة الأولى لتدفق أولى القطرات التي تدفقت من آبارها وسقت بذرة التنمية الأولى التي شهدتها هذه البلاد واستمرت حتى اليوم. «عكاظ» طلبت من مسؤولي شركة أرامكو السعودية الحديث عن البدايات التي بنت الإنسان والمكان، فانثال حديث الذكريات عذبا متدفقا تفوح منه رائحة الاعتزاز والفخر بمكان اختصه التاريخ بشهادة على العصر، وبرجال سطروا المجد بعرق جباههم، رحل بعضهم وبقي آخرون يتنفسون عبق الذكريات الجميلة بكل تفاصيلها خلال عقود من الزمن الجميل بكل ما فيه من مرارة اليأس تارة، وعذوبة الأمل تارة أخرى، وبهجة النجاح على كل ما تحقق ولا يزال يتحقق، هذه هي الظهران.. وهذه هي البداية كما وصفتها أرامكو السعودية ل «عكاظ»: منذ اللحظة التي وصل فيها الجيولوجيون الأوائل إلى المملكة أجروا فحصا جيولوجيا لتلال جبل الظهران خلال أسبوع واحد فقط من لحظة وصولهم إلى الجبيل، وبعد رسمهم للخرائط السطحية التي توضح تضاريس المنطقة، وقيامهم بعمليات الاستطلاع الجوي التي تساعدهم في أعمال البحوث الجيولوجية، وانتقال مجموعات منهم للتنقيب عن النفط إلى مناطق أخرى للبحث فيها، ظلت قبة الدمام محط أنظارهم، وقد أوصوا بأن تبدأ أعمال التنقيب عن النفط، وكان الجيولوجيون يأملون في اكتشاف النفط في نفس الطبقة الجيولوجية التي عثر عليها بها في البحرين، وعند العمق نفسه «600 متر في المنطقة الجيولوجية». ورغم هذه الإمكانات والقدرات فإن قبة الدمام كانت تمثل اختبارا لهم، وجاء في إحدى الطبعات الأولى لدليل أرامكو: لم يكن الأمر قاصرا على نقل جهاز الحفر والمعدات إلى مواقع العمل، بل كان من الضروري نقل جميع الامدادات اللازمة من خارج المملكة بما في ذلك ألواح الخشب، المعدات الثقيلة، لوازم السباكة، أنابيب الصلب، وغيرها من متطلبات تشييد مساكن العاملين، مواسير التزويد بالمياه، معدات النقل، وقطع الغيار، بالإضافة إلى الغداء والمتطلبات الشخصية، وإلى جانب ذلك كان من الضروري حفر الآبار لتوفير مياه الشرب وتشييد الطرق وتوفير الطاقة الكهربائية. وبما أن أعمال الحفر والعمل وفق نظام الورديات كانت أمرا جديدا بالنسبة للعاملين السعوديين، إلا أنهم أسهموا بشكل فاعل في حفر بئر الدمام رقم 1 في 30 أبريل 1935م، باستخدام جهاز الحفر الذي يعمل بالدق «الدقاق»، وكان برج الحفر الذي يشبه المسلة أطول منشأة في المنطقة، وبعد 7 أشهر من التأرجح بين الأمل واليأس والإخفاق والنجاح أنتجت البئر دفقة قوية من الغاز وبعض بشائر الزيت، وكانت بئر الدمام رقم 2 أفضل حالا، وقد بدأ العمل في حفرها في الوقت الذي أغلقت فيه بئر الدمام رقم 1 «أي في 8 فبراير 1936م»، وما أن جاء يوم 11 مايو حتى وصل فريق الحفر إلى عمق 663 مترا، وهو عمق الطبقة التي ظهر منها النفط من منطقة البحرين الجيولوجية، وعندما اختبرت البئر في شهر يونيو 1939م، تدفق الزيت منها بمعدل 335 برميلا في اليوم، وكانت زيادة حجم العمل في ذلك الوقت تعني المزيد من الرجال والعتاد والمواد، وأصبح موقع العمل هناك غير قادر على استيعاب الزيادة في عدد العاملين؛ فمع نهاية العام 1936م، ارتفع عدد العاملين السعوديين إلى 1076، بالإضافة إلى 62 من غير السعوديين، وكان المتوقع أن تسير الأمور بشكل طبيعي لكن حدث في ذلك الوقت ما لم يكن في الحسبان؛ فقد أخفقت بئر الدمام رقم 1 بعد أن حفرت إلى عمق يزيد على 975 مترا، أما بئر الدمام رقم 2 فقد تبين أنها رطبة بمعنى أنها تنتج الماء بشكل رئيس؛ إذ كان إنتاجها منه يزيد بمقدار 8 أو 9 مرات على حجم إنتاجها من الزيت، ولم يزد إنتاج بئر الدمام رقم 3 على 100 برميل من النفط الثقيل يوميا مع وجود الماء في هذا الانتاج بنسبة 15 في المائة، وبالنسبة للبئرين رقمي 4 و 5 اتضح أنهما جافتان غير قادرتين على إنتاج أية سوائل، وحفرت بئر استكشافية على بعد عشرين ميلا في الجهة الشمالية الغربية من الظهران، غير أن الحفر في هذا الموقع لم يسفر عن أية نتائج إيجابية، بالرغم من استمرار الحفر إلى عمق 1380 مترا، وحينما حفرت بئر الدمام رقم 6 في أوائل عام 1936م، لم تنتج غير كمية قليلة من الزيت الممتزج بالماء. البئر 7 وفي السابع من ديسمبر 1936م، بدأ أخصائيو حفر الآبار الاستكشافية في حفر بئر الاختبار العميقة رقم 7، وإذا كانت الآبار الأخرى مخيبة للآمال، فإن البئر رقم 7 لم تكن خالية من ذلك في البداية، فقد حدث تأخير في عملية الحفر وظهرت بعض المعوقات، حيث انحشر الحفر وكسر جنزير الرحى وسقطت مثاقيب الحفر في قاع البئر، وكان لا بد من التقاطها، كما حدث انهيار لجدران البئر، ورغم وصول جهاز الحفر الرحوي الذي يعمل بقوة البخار إلى طبقة البحرين الجيولوجية، ظلت النتيجة واحدة: لا يوجد نفط! ولكن سرعان ما تغيرت الأحوال بعد طول معاناة ومحاولات؛ ففي الأسبوع الأول من مارس 1938م، حققت بئر الدمام رقم 7 الأمل المنشود، وكان ذلك عند مسافة 1441 مترا تحت سطح الأرض، أي بزيادة تقل عن 60 مترا عن العمق الذي كان الجيولوجيون يتوقعون وجود النفط عنده آنذاك، وبدأ الزيت في ذلك الحين بالتدفق من البئر بمعدل 1585 برميلا في اليوم، وبعد حوالى ثلاثة أسابيع ارتفع المعدل اليومي لإنتاج البئر إلى 3810 براميل، وعمت أجواء عارمة من الفرح، وبعد بضعة أشهر أعلن رسميا أن حقل الدمام ملائم للاستثمار، فكانت هذه البئر جديرة حقا بأن تحظى بلقب «بئر الخير» الذي أطلقه عليها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز «يحفظه الله». البئر المباركة كانت البداية صعبة، لكن سرعان ما استقرت حال البئر فأصبحت مثالا حسنا للآبار النفطية المنتجة، واستمر الزيت يتدفق منها حتى عام 1982م، عندما استبعدت لأسباب تشغيلية بعد 45 عاما من الإنتاج المستمر، وبلغ مجموع ما أنتجته 32 مليون برميل، بمعدل إنتاج يومي بلغ 1600 برميل، ومنذ عهد قريب ظهر ما يمكن تسميته بالوجه الجديد لهذه البئر، عندما أعيد صقل فوهتها وتجديدها وتثبيتها فوق قاعدة عند مدخل مبنى التنقيب وهندسة البترول في الظهران. زيارة تاريخية وتستمر الذاكرة تستحضر بفخر واعتزاز تاريخ البئر «7»، فقد تفضل خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز يوم الأحد 25 ذو الحجة 1419ه، الموافق 11 أبريل 1999م، عندما كان وليا للعهد بزيارة بعض مواقع شركة أرامكو، وأعاد التاريخ ذاته؛ ففي شهر أبريل من العام 1939م، زار الملك عبدالعزيز «يرحمه الله» الظهران متفقدا مواقع عمل الصناعة البترولية السعودية، التي كانت ناشئة آنذاك. وقف خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في تلك المناسبة مستحضرا التاريخ في مشهد مهيب أمام البئر رقم 7، يوما شهدته هذه الأرض قبل ثلاثة أرباع قرن خلت من الزمن فاضت فيها فورة النفط من هذه البئر المباركة، وأطلق عليها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز اسم «بئر الخير»؛ لأنها بعد الله كانت السبب في خير كثير عم هذه البلاد وأهلها حتى اليوم. الظهران.. المدينة الأنموذج وعلى صعيد المكان.. مدينة الظهران لا تشبه المدن الأخرى على الإطلاق؛ فهي لا تحتوي على ما تحتويه المدن الأخرى من أحياء كثيرة وزحام على الطرقات وتفاصيل عصية على الحصر، فالمتجول في الظهران لا يرى سوى شركة أرامكو السعودية، قاعدة الملك عبدالعزيز الجوية، جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، مجمعات تجارية كبيرة لكنها قليلة، وأحياء الدوحة، الدانة، الجامعة، القصور، كامب أرامكو، السليمانية، الربوة، نزهة الخليج، جوهرة الدوحة، والرحمانية، التي بنتها أرامكو لمنسوبيها بتصاميم حديثة وتخطيط جميل، مما أغرى الكثير من المواطنين الذين لا يعملون في أرامكو لمزاحمة سكان هذه الأحياء النموذجية للسكن فيها وتملك المنازل هناك. بناء أرامكو للمدارس.. الفارق الحقيقي في بناء الإنسان تختلف مدارس التعليم العام في الظهران عنها في بقية مدن المملكة؛ حيث تبنت شركة أرامكو السعودية بالاتفاق مع الحكومة على تصميم المدارس وبنائها وتأثيثها، وصيانتها، والإشراف عليها، ولم يقتصر التعليم فيها على أبناء منسوبي الشركة وحدهم على الرغم من أن الخطوة بدأت من أجلهم. وبناء أرامكو للمدارس لم يبدأ إلا في بداية السبعينات الهجرية «الخمسينات الميلادية»، عقب صدور توجيه حكومي بإغلاق مدرسة الجبل سنة 1370ه، وكان غالبية طلاب مدرسة الجبل في ذلك العام من أبناء موظفي الشركة، حيث تسلمت الشركة خطابا من وزير المالية، إلى ممثلها في جدة برقم 4964/ 481/ 1 وتاريخ 12 شوال 1370ه، الموافق 16 يوليو 1951م يقول: «إنه من المحزن إغلاق مدرسة الجبل، إلا أن الإغلاق ليس ضربة توجه إلى تعليم أبناء العمال، لأن هذه الأعداد الكبيرة (من الطلاب) سوف ينشأون على الجهل». وختم ذلك الخطاب قائلا: «إن نظام العمل والعمال يفرض على الشركة فتح مدارس لتعليم أبناء الموظفين، والتعليم ليس محصورا لبعض العمال لتعلم المهن فقط، كما أن الشركة حولت مدارسها إلى مدارس مهنية، وقد اتخذت هذه الخطوة قبل استلام موافقة الحكومة النهائية، وهذا بالتالي يتعارض مع الهدف بالمطالبة بتأسيس مدارس. إن على الشركة أن تقوم بفتح مدارس ابتدائية ومتوسطة في الظهران تدار من قبل مدير التعليم، وذلك بسبب حاجة الظهران لهذه المدارس، مع الأخذ برأينا، وقد ردت شركة أرامكو بخطاب (رقمه: 730 - R S، وبتاريخ 19 أغسطس 1951م) إلى وكيل وزارة المالية في الحكومة تطلب مناقشة الموضوع على مستوى رفيع، وليكن الاجتماع في الظهران حيث يوجد ممثل الحكومة والشركة لدراسة وضع المدارس في منطقة عملياتنا، ومن هنا انطلقت عجلة المفاوضات، والترتيبات اللازمة لمشروع بناء شركة أرامكو للمدارس، في المنطقة الشرقية، حيث شكلت الحكومة لجنة من المفتشين التربويين في جمادى الأولى 1371ه/ يناير 1952م لدراسة أوضاع التعليم في المنطقة بصفة عامة، ومدارس الظهران بصفة خاصة، واستمر سجال الخطابات لسنوات بين ممثلي الشركة والحكومة حتى انتهى بتبني أرامكو لبناء المدارس التي أحدثت فارقا كبيرا في مستوى التعليم العام في المنطقة الشرقية بشكل عام وفي الظهران خاصة. شباك يحدث هنا فقط - أن تجد رجلا طاعنا في السن بالكاد يجيد القراءة والكتابة بالعربية فيما يتحدث الإنجليزية بطلاقة وكأنما هي لغته الأم. - أن تجد مدرسة حكومية تفوق إمكاناتها أكثر المدارس الأهلية تطورا، والتعليم فيها بالمجان. - أن تجد مدينة كاملة أحياؤها موحدة الطراز، منظمة ومنمقة إلى حد كل شيء يرسم هنا بالمسطرة. - أن تجد الناس تضبط ساعاتها على دوامات موظفي أرامكو صباحا ومساء وكأنما لهذه المدينة توقيتها الخاص، وكأنما مجتمع النفط يشكل نمط حياة لمجتمع بأسره.