أطفأت المؤسسة العامة لصوامع الغلال ومطاحن الدقيق شمعتها ال 40 من عمرها، عندما تأسست في ذلك التاريخ كانت رسالتها تحقيق أمن غذاء الناس الأول «الدقيق» الذي يعد وجبة رئيسة على أطباق الموائد. منذ عام 1392 ه، وما حدث قبل عامين من أزمة دقيق ضربت عددا غير قليل من مناطق ومدن المملكة، يؤكد أن المؤسسة العتيدة كانت تعمل بنمطية قاتلة، ورؤية غير سديدة، ومعالم خطة غير واضحة. الآن، تشهد المؤسسة ثورة عمل غير مسبوقة، معدات تجلب من أرقى الماركات وبمئات الملايين، أعمال هدم وإزالة وبناء في كل موقع، معالجات مفصلية، نفض شامل للغبار في كل موقع، جهد يتواصل، هنا يطال السؤال القضية أين نحن طوال ال 40 عاما التي مضت؟، لماذا لم يتم تحديث معدات طحن الدقيق الذي يعد قوتا يومياً وسلعة استراتيجية لا مساومة عليها.؟ قلعة صناعة الدقيق وأنا أدلف من باب فرع المؤسسة العتيد على بعد أمتار من ميناء جدة الإسلامي، ومعي صديقي المصور الصحافي غازي عسيري أدركت يقينا أن ال 40 عاما لم تستثمر بالشكل المأمول، رغم أن هذا الزمن يكفي لتأسيس مدن كبرى، وشركات، ونهضة وتنمية. بوابة شامخة عمرها نحو 33 عاما، أرصفة غير مهيأة، حراسة أمنية مشددة، مركبات تصطف في كل اتجاه، في منظر مشوه أمام البوابة الرئيسة، هذه وغيرها صور تداعت أمامي وأنا أقلب بصري ذات اليمين وذات الشمال لأعرف وأستجلي حقيقة ما يدور في «قلعة صناعة الدقيق»، فلا أحد يعرف كيف يصنع هذا الغذاء الاستراتيجي المهم، وما نسبة أمانه وسلامته وجودته. قيل لي، عمر مبنى فرع المؤسسة في جدة نحو 33 عاما، والمكائن التي تعمل ليل نهار لتنقية الدقيق وطحنه وفحصه وتعبئته وشحنه هي ذات المكائن التي تم استيرادها قبل 32 عاما، وضعت يدي على رأسي من هول ما سمعت وسألت بشكل مباشر وواضح «وكيف تعمل طوال هذه الفترة» جاءت الإجابة من مسؤول الإنتاج إنها تخضع للصيانة الدائمة، سألته مرة أخرى وماذا لو توقفت عن العمل فأجاب « لدينا ستة خطوط للإنتاج ونوقف المكائن ثماني ساعات في اليوم، لترتاح وتخضع للصيانة». أغيثونا عندما بدأت في التخطيط لإنجاز هذه الحلقات الصحافية، تواصلت مع موظفين في صوامع الغلال، مسؤولين، تجارا، ومقاولين، حيث كونت فكرة تعكس بوضوح واقع الحال، وماضي الأيام، يقول موظف دفع برسالة إلكترونية على بريدي يؤكد فيها أن هذه الرسالة تعكس واقع الحال الذي يعيشه وعدد غير قليل من الموظفين. «مضى على عملي نحو ثمانية أعوام، نقوم بأعمال أقل ما يمكن تصنيفها أنها شاقة، ومع ذلك ورغم ضخامة دورنا وضرورة بقائنا وحاجة العمل الماسة لنا، لازلنا وهذا هو المؤسف بدون وظائف رسمية، وبدون تأمين، أو حتى مكافآت تشجيعية». وأضاف بعد أن رمز لاسمه ب «ف س»: «عددنا يقترب من ال 200 موظف، طالبنا بالتثبيت فعرضت علينا وظائف بأقل من نصف رواتبنا الحالية، لا يمكننا القبول بها الآن، ظروف الحياة تغيرت، ونحن نعمل تحت ضغط عال، وفي أعمال شاقة، ومبيعات فرع جدة بمفرده بلغت نحو 387 مليون ريال خلال العام المنصرم فلماذا يقترون علينا». موظف آخر يقول «نسبة توطين الوظائف في فرع المؤسسة في جدة لم تتجاوز 43 % من أصل 457 موظفا، حيث إن المؤسسة يعمل فيها مصريون، سودانيون، باكستانيون، هنود، فلبينيون، بنجلاديشيون، نيباليون، فيتناميون، وسيرلانكيون وجميعهم على كفالة المؤسسة وتدفع لهم رواتب، تذاكر سفر، علاج في أرقى وأفضل المستشفيات، سكن وملاعب ترفيهية، وفي المقابل لا يدفع لنا أحد شيئا، فنحن رغم خطورة عملنا لا نحصل على تأمين صحي، ولا على مكافآت، فما قيمتنا نتمنى أن نحصل على إجابة وافية من مدير عام المؤسسة العامة لصوامع الغلال ومطاحن الدقيق». وختم الموظف رسالته « إذا كانوا لا يستطيعون تثبيتنا، ولا حتى منحنا حق العلاج في المستشفيات أسوة بالموظفين الأجانب، فمن الأولى أن يمنحوننا دقيقا نطعمه أبناءنا وأنفسنا مكافأة لنا، بدلا من أن نشتريه من الأسواق ونحن الذين نشارك في صناعته وتغليفه وتحميله على ظهور الشاحنات، قبل أن يتحول إلى الأفران ومن ثم إلى أفواه المواطنين والمقيمين». كافئوهم بالدقيق ما أن أسندت ظهري على كرسي وثير يلاصق مكتب مدير فرع المؤسسة في منطقة مكةالمكرمة المهندس علي بن عبيد سنقوف، وقبل أن أتناول كوب الشاي باغته بسؤال ممزوج بدعابة « لماذا تدعون موظفيكم يشترون الدقيق من الأسواق، كافئوهم بأكياس معبأة بالدقيق الفاخر، يطعمون به أنفسهم وأبناءهم». أدرك سنقوف مغزى سؤالي وقال « نتمنى أن ينال كل الموظفين حقهم كاملا، مدير عام المؤسسة المهندس وليد بن عبد الكريم الخريجي كتب عن معاناتهم غير مرة، وحملها إلى المسؤولين في كل مرة، آخر شيء فعله كتب مذكرة إلى نائب وزير الخدمة المدنية شرح فيها معاناة الموظفين، والخسف الذي سيطال مرتباتهم، وعممها على الفروع ليدرك عموم الموظفين في كل المناطق أن معاناتهم محسوسة وملموسة، وأن المسؤول الأول عن المؤسسة ينافح عنهم ويعتبرها قضية جوهرية وفي صلب أولوياته». وأضاف زارتنا لجان، التقوا الموظفين، سمعوا معاناتهم، تحدثوا إليهم، شاهدوا طبيعة عملهم، وقد صدر قرار بتعيينهم على وظائف رسمية لكن المشكلة الرئيسة أن الرواتب والمراتب التي سيتعين عليها الموظفون الآن أقل مما يتقاضون وهو ما جعل كثيرا منهم يرفضون وخصوصا الذين يقتربون من التقاعد». أقدم موظف سألت مدير الفرع وهو يتحدث لي منذ متى وأنت تعمل هنا فأجاب « منذ عام 1399 ه، وتحديدا عندما أطلق الملك خالد بن عبد العزيز فرع المؤسسة في جدة في 17 شعبان 1399ه أي قبل 33 عاما، التحقت بالخدمة في شوال أي بعد شهرين من إطلاق الفرع وأعرف أدق التفاصيل عن المكان والعاملين فيه. قلت له مداعبا لكن بياض الشعر كساك فهل بلغت من الكبر عتيا، فأجاب ضاحكا «بياض شعري من لون الدقيق الذي ندفع به سنويا إلى بطون الملايين من المواطنين والمقيمين». بعد أن ضحك ودفع إلي عامل القهوة بكوب من الشاي الساخن، بدأت أسئلتي تنهمر على مدير فرع المؤسسة، حرصت أن أطرح الأسئلة التي تمثل هما ووجعا حقيقيا ليس للمستهلكين فحسب، بل وللموظفين والموزعين وأصحاب المخابز على حد سواء، كان الرجل مثالا للمسؤول الواعي يجيب بموضوعية، ويتحدث بصدق، أحسست وهو يتحدث معي أنه لسان حال الموظفين المسحوقين في المصنع الكبير، وفجأة وبصرامة المسؤول تجده يعلن تحديه عندما تكون الحقائق بين يديه. أجابني وقد ارتفعت نبرة صوته عن مزاعم تتحدث عن تدني مستوى وجودة الدقيق ووجود حشرات في بعض الكميات قائلا «هذا غير صحيح إطلاقا، نحن نطبق معايير ومواصفات عالمية، الدقيق الذي نضخه في الأسواق على أعلى المواصفات ويتفوق على ما هو موجود خليجيا وعالميا، لدينا رقابة صارمة جدا على كل المراحل، الشراء، التعاقد، الاستيراد، الشحن، التفريغ، التنظيف، الطحن، التعبئة ومن ثم الشحن على أسطح الشاحنات، حتى تسليمه للموزعين، لن نسمح بدقيق فاسد، أو غير صحي مهما كان الثمن، هذه أمانة والجميع هنا يعي ذلك». وزاد « نفحص أصناف القمح المورد للمؤسسة بأكثر من طريقة ومنهج عمل، فنستخدم العينات العشوائية ونسحب الكميات فجأة وفي جميع المراحل، للتأكد من خلوها من الحشرات والأسمدة والتعفن أو أي تغيرات طبيعية قد ترى بالعين المباشرة، إلى جانب التأكد من نسبة الرطوبة، البروتين، الرماد، الجلوتين، السقوط، درجة النعومة، اختبار الفارينوجراف إلى جانب إضافة نسب إلى الدقيق من الفيتامينات، والحديد، واختبار الخبز». سألته عن الإنتاج والكميات التي تطرح في الأسواق فأجاب، نسوق أحد عشر صنفا من الدقيق الآدمي والحيواني. خزن استراتيجي ل 6 أشهر ولكن هناك مخاوف من أزمة دقيق، الجميع يتذكر ما حدث قبل عامين، أين نحن الآن وما حجم المخزون من الدقيق؟ .. أجاب على سؤالي: لدينا مخزون من الدقيق يسد حاجة السوق لمدة ستة أشهر، وخطوط الإنتاج لا تتوقف لحظة واحدة، وما حدث قبل عامين كانت له أسبابه، وقد أخضعت جميعها للدراسة بهدف عدم الوقوع فيها، وأعتقد أن لدى المؤسسة بإشراف مباشر من مديرها العام المهندس وليد الخريجي خططا دقيقة كفيلة بسد حاجة البلاد والعباد من الدقيق لمدة ستة أشهر والتفكير ينصب الآن لتخزين الدقيق لمدة سنة كاملة بإذن الله. السعوديون أقلية عدت بمدير فرع المؤسسة في منطقة مكةالمكرمة المهندس علي سنقوف إلى محور التوظيف، سألته لماذا السعوديون قلة إلى جانب العمالة الوافدة في الفرع؟ فأجاب: هذا نتاج طبيعي السعوديون لن يقبلوا العمل في هذه الوظائف التي هي عبارة عن تشغيل مكائن وتحميل وتنزيل أكياس الدقيق وتعبئتها، نتمنى أن نجد من يقبل العمل في هذه المهن، المؤسسة تفكر في إنشاء معهد متخصص للتدريب يكون قادرا على مد صناعة الدقيق بالكفاءات المؤهلة في مختلف مفاصل العملية الإنتاجية، لدينا شباب سعوديون في الصيانة والمختبر والعملية الإدارية والمحاسبية غير أن وظائف العمالة الدنيا لا نجد قبولا عليها. سألته عن أبرز ما تقدمه المؤسسة للعاملين الوافدين، قال « أولا هم على كفالة المؤسسة ونسبتهم 57 % من عدد الموظفين أي في حدود 260 موظفا، يحصلون على السكن، بدل النقل، التأمين الطبي، تذاكر السفر والعودة، هذا كل شيء، وهذا حقهم الطبيعي». أبلغته أن الموظف السعودي لا يحصل على كل هذه المميزات فقال «نحن ندرك معاناة الموظفين، ونشاطرهم الرأي في أن من حقهم الحصول على تأمين طبي، ومكافآت وخدمات، هناك جهد يبذل وسيتحقق كل شيء». قلت له ألا تخشون تأثر الإنتاج نتيجة الإحباط الذي بدأ يفتك بالموظفين فأجاب «المؤسسة أدركت ذلك وطبقت نظام ساعات خارج دوام، حيث يحصل الموظف على أجر ساعتين إلى ثلاث يوميا، نحن ندرك أن ذلك أقل بكثير مما يستحقون ولكن هذا ما تسمح به الأنظمة».