الفن هنا، والعبقرية تمتزج بالطيبة والسماحة، كعادة الجميع. والحرفة ليست عملا وأجرة فقط وإنما الحرفة تربية وسلوك وأخلاق. فالتحرك ومنذ الخطوة الأولى نحو طلب الرزق فجرا لا يكون إلا بالقناعة والنية البيضاء ثم الصفاء. المشقة مهما بلغت والمعاناة مهما تأزمت لا تصل في حجمها وتأزمها أبدا نحو قناعاتهم ونواياهم أو حتى سلوكهم. هم المغادرون فجرا باتجاه الرزق وهم أنفسهم وبنفس ذلك الصفاء حينما يعودون لدورهم. يجمعهم (البحر والقارب)، لكن أبواب رزقهم مختلفة. منهم من توارث صناعة القوارب وحتى السفن ومنهم الصياد من لا غنى له عن صانع القوارب ذاك. وما بين صناعة القارب والصياد كانت هذه الحكاية العابرة من (جازان). يدي صنعت قوارب وسفناً ابراهيم احمد بلغيث، الرجل الممتلئ ببياض الصراحة وعفوية الحديث قال: من زمن بعيد ومنذ عهد جدي تعلم والدي هذه المهنة التي لازمته بدوري فيها حتى أصبحت الشخص الوحيد في جازان من يقوم بهذا العمل ومن خلال ورشتي هذه. نقوم بعملية صيانة القوارب التي لا بد من إيقافها للصيانة بعد موسمين من العمل. والصيانة هنا تكون شاملة للقارب من بداية القارب وحتى نهايته. كما أنني أقوم بصناعة القوارب الشراعية من الألف إلى الياء ونستخدم لها أنواعا مختلفة من الأخشاب، منها الخشب السويدي وخشب الجاوة الأحمر وهذه الأخشاب كانت قديما ولم يعد لها وجود مثلما كان الحال في ذلك الوقت ولهذا تحولنا لشراء الأخشاب من الداخل ومن (بر جازان) كخشب (النيم والسدرة والأثل والعرج) وهذه الأخشاب بالذات هي التي تصلح في صناعة القارب ويمكنها التحمل. هناك خشب ذو نوعية خاصة وتكلفته عالية جدا وهو خشب (الساج) ويتم استيراده من ساحل العاج وسعر المتر الواحد من هذا الخشب يكلف 18 ألف ريال فتخيل تكلفة صناعة قارب يمتد 700 900 ذراع. فيما يعد النيم أرخص الأخشاب ثمنا. ولهذا تعتمد تكلفة القارب على تكلفة الخشب والمسألة لا تتعلق بصناعة القارب فقط وإنما أيضا أقوم بعملية التصميم أيضا ففكرة (كبينة) الركاب المغطاة التي تستخدم في (الفلوكات) الخاصة بنقل الركاب إلى فرسان هي من تصميمي أولا فقد أمضيت ما يقارب ال40 عاما في هذا المجال وما زلت حيث أعمل في هذا المكان وقد كنت أعمل فيه وحيدا وبلا مساعدين لكن من فضل الله تعالى أصبحت أعمل الآن ومعي أبنائي بالإضافة إلى وجود العمالة. الساج سيد الأخشاب أما عن الخشب من القوارب التالفة فلا تتم الاستفادة منه مرة أخرى فيما عدا خشب (الساج) الذي حدثتك عنه. لكن هناك قوارب كبيرة يتم تصنيعها من الحديد. والذي يميز قوارب الحديد عن قوارب الخشب أنها تستطيع البقاء في البحر لمدة تصل ل3 سنوات دون حاجة لأية صيانة بينما الخشب لا يمكن أن يبقى كل هذه المدة. ولعلي أذكر قصة بهذه المناسبة مع سفينة (يونانية) منذ زمن بعيد حاولت الرسو في الميناء ويبدو أن الربان احتك بالجزء الأسفل من السفينة وعلى مستوى ماء البحر في الرصيف فأحدث هذا الاحتكاك فتحة كبيرة حاول فيها الربان البحث عمن يقوم بإصلاحها إلا أن كل محاولاته باءت الفشل ويئس الربان كما أبلغني بعد ذلك حيث عرضوا علي تلك المهمة فقمت بإصلاحها وبصورة لا تكاد تعتقد أبدا أنه كانت هناك فتحة أو أن السفينة تعرضت لأي عطل وفعلا ابتهج الربان فقام بإعطائي 2000 دولار خلافا لقيمة الإصلاح المتفق عليها ورحلت السفينة. ومن فضل الله تعالى أنه ما من قارب قمت بتصنيعه حدث له مكروه. وتستغرق مدة صناعة القارب مدة تمتد من أسبوعين إلى 3 أسابيع، أما السفن فالأمر يختلف وخصوصا الحديد حيث ربما أمضينا نحو 6 أشهر ومن فضل الله كذلك أنني ولله الحمد لدي المقدرة والإمكانية على صناعة أي قارب أو أية سفينة كصورة طبق الأصل فقط من النظرة الأولى. نبتكر التصاميم ويتدخل عبده ابراهيم احمد قائلا: هناك من يأتي ويرغب في عمل قارب بمواصفات خاصة به سواء كان ذلك يتعلق بنوعية الخشب الذي يريد تصنيع قاربه منه تماما مثلما طلب أحدهم أن نصنع له القارب من خشب (الساج) وهذا الخشب كما ذكر لك مكلف جدا لدرجة أن قارب هذا الرجل تجاوزت تكلفته المليون، فقط الخشب وليس تكلفة القارب كاملة. أيضا هناك من يرغب تصميما معينا للقارب من الداخل نقوم بعمل ذلك له. وعموما إذا ما ترك لنا الأمر فإنه لا يعجزنا تنفيذ أي تصميم فنحن نبتكر من التصاميم الكثير وبصورة متقنة. خشب الأجداد والآباء ويحكي علي محسن شرعبي (صياد وصاحب قارب) قائلا: قوارب الصيد عموما تتم صناعتها من الخشب وحاليا (الفيبر جلاس) لكنني كنت أفضل دائما استخدام القوارب التي يتم تصنيعها من الخشب لأنني أشعر بأن فيها البركة، لأن الأجداد والآباء قديما لم تكن قواربهم إلا من الخشب بالرغم أن قوارب (الفيبر جلاس) تعتبر عند الكثيرين أخف من الخشب إلا أن المسألة لا تتعلق بالوزن خفيفا أو ثقيلا. وقد كنت في ذلك الزمن أحرص حرصا قويا على أن أخرج القارب من البحر حالما أعود منه والسبب من أجل أن أقلل من حاجة القارب للصيانة أو تعريضه للتلف فمن المعروف أن بقاء القارب في البحر بصورة مستمرة يعرضه لعملية التآكل أو لتعلق الطحالب أو غيرها به وتراكمها عليه ولهذا ترى أن بعض الصيادين عندما يود الابتعاد عن البحر لظرف ما فإنه يقوم بإخراج قاربه كاملا من البحر وربما حمله معه إلى البيت فالماء المالح للبحر يفتت كل شيء. وقد تعلمت القيام بهذا من جدي فجدي كانت لديه عدة قوارب يقوم بالعمل فيها بعض أقاربنا أو الجيران، هذه القوارب الخاصة بجدي بقيت على حالها بسبب ذلك الحرص لدرجة أننا قمنا ببيع بعضها قبل حوالى سنتين تقريبا نتيجة لأن والدي رفض رفضا قاطعا أن يسلمها لأي من العمالة الوافدة التي يقول إنها عمالة تستغل القارب لمصلحتها وليس حسب الاتفاق معهم أن يكون العائد لصاحب القارب ولهذا أضطر لبيع بعض تلك القوارب الخاصة بجدي وما زال بعضها نحتفظ به كتراث فقط. «الجلب» مزق يدي لا يزال عمر عبد الرحمن سعوي يتذكر تلك الحادثة التي تعرض لها مع قاربه قائلا: رحلت مع بواكير الصباح من الميناء متوجها للصيد وكنت قد اتخذت من المؤونة ما يكفي 3 أيام وفي الموقع الذي قررت البقاء فيه أوقفت القارب وشرعت في توزيع «الجلب» هنا وهناك ثم توجهت لمؤخرة القارب لصنع الشاي. حوالى ساعة أو ساعة ونصف تقريبا ما بين وضع (الجلب) وجلوسي في مؤخرة القارب وإذا بالقارب يترنح بصورة عنيفة وبشكل أشعرني أن القارب لن يصمد طويلا في البقاء على سطح البحر. أسرعت باحثا عن (الجلب) الذي يشد القارب وعثرت عليه وأردت أن أرفعه إلا أن العملية كانت مستحيلة فقد بدأ (الجلب) ينغرس في لحم أصابعي ويدي وفعلا تحول (الجلب) إلى سكين وأدركت أن (الجلب) معلق به سمكة ليست بالحجم المتوقع لكن للألم الذي كنت أعاني منه بالإضافة إلى خوفي من انقلاب القارب قمت بقطع الوتر ثم ارتميت في وسط القارب منهارا ودون أي أحساس لم أستيقظ من حالتي تلك إلا بعد منتصف الليل ومن رحمة الله تعالى أن نزيف يدي وأصابعي توقف وإلا لربما مت في مكاني. المشكلة أنني كنت أود أن أرفع بقية (الجلب) من أجل السرعة بالعودة للشاطئ من أجل معالجة يدي ففوجئت بأن كل (الجلب) الذي قمت بتعليقه به صيد وهذا يعني ضرورة أن أرفعه للأعلى لكي أخرج السمك من (الجلب) وهذا صعب جدا لأنني لا أستطيع تحريك يدي اليمنى نهائيا بمعنى أن علي أن أتحامل على الألم وأعمل بيد واحدة لهذا عدت مرة أخرى وارتميت مجددا في وسط القارب ولا خيار أمامي سوى قطع كل (الجلب) والتحرك، وفي هذه اللحظة اليائسة بعث الله لي قريبا كان عائدا بغنيمته من الصيد وكنت قد قمت بإنارة القارب بفانوس كان معي، ففي اللحظة التي نهضت فيها معتزما قطع (الجلب) شاهدت القارب العائد فقمت بحمل الفانوس وحركته يمينا وشمالا كإشارة لطلب المساعدة فاقترب مني وعندها عرفته وعرفني فأبلغته بالموقف وتمكن جزاه الله خيرا من مساعدتي وقام بجمع الصيد العالق في (الجلب) وطلبت منه حينها أن يحمل ذلك الصيد معه لأنني سوف أتوجه للبيت مباشرة من أجل معالجة يدي ولن أذهب للسوق. تخيل أن قريبي هذا عندما قام بزيارتي بعد ذلك جاء حاملا معه مبلغا من المال هو المبلغ الذي باع به ذلك الصيد، لم أصدق أبدا ولم أحلم بالمبلغ ولم أحصل عليه من بيع السمك من قبل.