أمراض مستوطنة وأخرى مكتسبة وبعضها لا هذه ولا تلك، لكن الذي يجمع بينها تلك التجاذبات المتبادلة بين الصحة والمجتمع، الطرف الأول يقول إن كامل جهودها تتجه نحو استئصال المستوطن ومعالجة المكتسب وتعزز وجهة نظرها بأرقام وإحصائيات ودراسات مصوبة اتهامها ضد المواطن الذي يكتسب المرض المكتسب بتقاعسه وإهماله ثم يظفر بالمرض المستوطن بعدم معرفته وإدراكه بأسباب وظروف ودواعي انتقال الأمراض وطريقة انتشارها.. الضنك مثالا. على النقيض من ذلك، يعتبر بعض أفراد المجتمع خطوات الصحة في مكافحة تلك الأمراض مجرد تابلوهات إعلانية وإعلامية لا تصل إلى درجة العمل الميداني الذي يستهدف بؤرة المرض ومناطق توالده، كما يستهدف الأسباب الوراثية التي تجعل الوارث أكثر قابلية للإصابة. تجاذبات المرضى والصحة احتلت عشرة أمراض قائمة خريطة الأمراض المستوطنة في المملكة، فأصبحت تشكل تهديدا واضحا في زحف وامتداد مساحة المصابين، وتزخر السجلات الطبية بأرقام وإحصائيات تؤكد فشل احتواء هذه الأمراض وزيادة أعداد المصابين، في الوقت الذي تمكنت فيه العديد من الدول من إيقاف انتشار المزيد من نسب المصابين، ولا سيما الأمراض المكتسبة. ويظل السؤال يلح.. أين يكمن الخلل، هل في البرامج التوعوية التي تنفذها الصحة أم في سلوكيات المجتمع الذي لا يكترث بمقولة «الصحة تاج على رؤوس الأصحاء» وأن «درهم وقاية خير من قنطار علاج»؟. يرى المختصون في الصحة أنه يصعب وقف نزيف الأمراض المستوطنة طالما بقي حال المجتمع الصحي على ذات الحال من عدم الاكتراث والإهمال وانتظار ما تسفر عنه الظروف وتداعيات الأيام. في المقابل، يظهر كثير من أوساط المجتمع امتعاضا على الخطوات التي تتخذها الصحة، ويقول عبدالملك أبو منصور (أحد المصابين بداء السكر): إن سيوف وزارة الصحة فشلت في استئصال الأمراض وبدلا من الاعتراف بعجزها سددت سيوفها على صدور المرضى!. تبين الدراسات الطبية أن أبرز الأمراض التي تشكل خريطة الأمراض المستوطنة هي السكري بنسبة 24 في المائة، السمنة 29 في المائة، ضغط الدم بنسبة 13 في المائة، الأمراض الوراثية وتشمل الثلاسيميا والإنيميا المنجلية بنسبة 17 في المائة، القلب 12 في المائة، أمراض العيون وتشمل المياه البيضاء والزرقاء بنسبة 5 في المائة، السرطان بمختلف أنواعه 21 في المائة، الربو بنسبة 10 في المائة، الأمراض النفسية وتشمل الاكتئاب والقلق والتوتر 20 في المائة، والكلى، أما الملاريا والضنك فلا توجد عنها إحصائيات موثقة علميا. الصحة: سيوفنا للمكافحة استشاري طب الأسرة والمجتمع في صحة جدة الدكتور خالد باواكد، ابتدأ مرافعته الدفاعية عن الصحة بالقول إن السيوف التي يتحدث عنها المواطن أبو منصور لن تتجه يوما إلى صدور المرضى، بل إلى مواطن المرض والقصور والإهمال فالمسؤولية تضامنية بين الطرفين إن اختل التوازن سقط الميزان نفسه، فالجهات المكلفة برعاية وعلاج المرضى لا تقف مكتوفة اليدين أمام تجاوزات كثيرة تحدث بسبب عدم الدراية، فمثلا فإن بعض أفراد المجتمع يخلقون لأنفسهم بيئة مناسبة لاكتساب الأمراض المستوطنة منها والمكتسبة، فالمستنقعات التي تملأ الشوارع مثلا تعتبر بيئة خصبة لتوالد البعوض الناقل للضنك والملاريا، ومع ذلك فإن هناك أناسا يخوضون في عمق المستنقع ثم يعتبون على الصحة التي تتباطئ في علاجهم على حسب زعمهم . يضيف الدكتور باواكد أن التنسيق بين الصحة وكافة الجهات ذات العلاقة المكلفة بمكافحة الأمراض يظل مستمرا على مدار العام، لكن السلبيات تتمثل في عدم تفاعل المجتمع، وتساهله مع الحملات الصحية العديدة التي تكلف الوزارة مبالغ كبيرة. الإعلان وحده لا يكفي المواطن جابر شامان أبكر الذي عانى منذ سنوات طوال عوارض ضغط الدم أمضت به إلى سرير المرض واعتزال وظيفته في إحدى المؤسسات الخاصة يقول: إن كل برامج وزارة الصحة فشلت في وضع آليات ومفاصل وقائية تمنع امتداد مثل هذه الأمراض، مشيرا إلى أن الإعلانات الباردة والنصائح المجانية التي تنشرها الوزارة على الكتيبات والأوراق الملونة لم تعد تقنع أحدا ويضرب مثلا بالمدخن المدمن الذي يطالع كل يوم عبارة التدخين ضار بالصحة ثم لا يتورع عن شراء العبوة كل يوم، صحيح إن المجتمع يدرك خطورة تردي البيئة ومخاطر انتشار الحشرات الناقلة للأمراض والأوبئة، كما يعلم أن الأمراض الوراثية يمكن كبح جماحها بإجراءات الفحص قبل الزواج، لكن النصائح والإرشادات وحدها لن تفيد، فلابد من تحرك ديناميكي عبر كل المحاور بدءا من المدارس إلى المنازل ومواقع العمل وإجراء رسم بياني دقيق عن الحالات المرضية وسبل علاجها وتمكين المرضى من حق التداوي بالمجان. يواصل شامان: إن مرضى الأوبئة الخطيرة يعانون الأمرين في الحصول أحيانا على قيمة الدواء، فماذا يستفيد المريض من الإعلان والنصيحة وهو غير قادر على شراء جرعة دواء؟. الجلطات تزحف استشاري القلب في مستشفى الملك فهد العسكري في جدة الدكتور حسان شمسي باشا، لا يختلف كثيرا مع رأي الدكتور سامي باداوود ويقول: إن المشكلة تكمن في أفراد المجتمع الذين لا يتقيدون بأبجديات الوقاية، فمثلا الجلطات القلبية أصبحت تشكل خطورة في المجتمعات العربية والخليجية وفي بلادنا على وجه الخصوص، ولا سيما مع رفاهية الحياة التي ينتشر فيها نسب المدخنين، ارتفاع كولسترول الدم، ارتفاع ضغط الدم، داء السكر (مع غياب النشاط البدني والسمنة)، والتعرض للضغوط النفسية. ولاحظ أن 40 في المائة من مرضى الجلطات القلبية شباب تتراوح أعمارهم ما بين ال 30 إلى 40 عاما، وهذا مؤشر خطير جدا في تفاقم حالات الجلطات القلبية. ويضيف الدكتور باشا «للأسف أفراد المجتمع يتساهلون كثيرا مع التحذيرات الوقائية، وهو ما ساعد في زيادة أعداد مرضى القلب الناتجة عن العوامل المعروفة، وفي البال زيادة أعداد المدخنات بالسيجارة والشيشة». باشا أكد أن وقف زحف أمراض القلب يكون بتجنب العوامل المسببة، ولا سيما أن المجتمعات الخليجية بالتحديد تمتاز بقلة الحركة وغياب الوعي الصحي. مشروبات وهرمونات وأنحى استشاري رئيس قسم أمراض الغدد وسكري الأطفال في مدينة الملك عبد العزيز الطبية في الحرس الوطني الدكتور عبد العزيز التويم، باللائمة على القطاعات المجتمعية في انتشار الأمراض وتوسيع دائرتها، مطالبا في ذات الوقت التفريق بين الأمراض المكتسبة والوراثية. وضرب التويم مثلا بازدياد أعداد المصابين بداء السكري، مشيرا إلى أن نسبة الإصابة كانت 2.5 في المائة عام 1970م، ثم زادت إلى 5 في المائة عام 1980م، وفي عام 1990م وصلت إلى 12.4 في المائة، وفي عام 2000م ارتفعت إلى 17 في المائه، أما الآن فتقدر بنحو ب 24 في المائة «إذا أخذنا في الاعتبار الزيادة المطردة في السكان والتغير البيئي والمعيشي لسكان المملكة». وكشف الدكتور التويم أن جميع الدراسات أثبتت أن الأسباب الرئيسة وراء انتشار السكري من النوع الثاني هي استهلاك الوجبات السريعة والدسمة والمشروبات الغازية التي تحوي نسبة كبيرة من السكر، أما العامل الوراثي وأمراض الهرمونات فلا تشكل سوى 1 في المائة من أسباب السمنة في المجتمعات العربية. مريض السكري ناصر الحربي الذي راجع أكثر من عشرة اختصاصيين لمداواته، وجه انتقادا شديد اللهجة إلى الجهات الصحية والأطباء على حد سواء، فقال: إن مهمة الصحة اقتصرت فقط في إطلاق التحذيرات المكرورة عن النظام الغذائي لمرضى السكر دون التوغل في أسبابه والعوامل المهيجة له، مشيرا إلى أن المرضى العاديين باتوا يصرفون أدويتهم بأنفسهم من الصيدليات دون وصفة طبية تكلفهم ماديا. النساء أكثر توترا على ذات النسق، ينتقد استشاري الطب النفسي الدكتور محمد الحامد توجيه لوم انتشار الأمراض لأفراد المجتمع، معتبرا ذلك من أكبر الأخطاء، لافتا إلى أن هناك عوامل عديدة أدت إلى توسع دائرة الأمراض النفسية. ولاحظ الحامد أن إيقاع الحياة السريع أدى إلى انتشار أمراض القلق والتوتر، فمثلا نجد أن نسبة انتشار الاكتئاب بين النساء تتراوح ما بين 15 إلى 20 في المائة، والرجال ما بين 10 إلى 20 في المائة، باعتبار النساء عرضة للتغيرات الهرمونية الفيسولوجية وظروف الحمل والولادة والرضاعة والطمث والضغوط النفسية، أما الرجال فهم أكثر عرضة لضغوط العمل والمسؤوليات الاجتماعية. وأوضح أن القلق والتوتر يحتلان المرتبة الثانية في الأمراض النفسية، حيث يعاني 35 في المائة من الجنسين من أعراض القلق والتوتر، وهي أعراض إما مكتسبة قد تتجاوز بانتهاء العامل المسبب أو مرضية تستوجب التدخل الدوائي. ويقترح الدكتور الحامد، وضع برامج توعوية مقننة تهدف إلى تعريف أفراد المجتمع بمضاعفات هذه الأمراض وما يترتب عليها من انعكاسات على صحة الإنسان، فالفرد أيضا يتحمل 75 في المائة من مسؤولية زحف الأمراض المكتسبة بعدم تقيده ببرامج التوعية واستهتاره بالمضاعفات المترتبة بسبب غياب الوعي الصحي. إعادة تقييم وتقويم ويحذر استشاري أمراض الباطنة الدكتور محمد علي، من تزايد أمراض السمنة في المملكة، لافتا إلى «أن نسبة زيادة الوزن عند الرجال وصلت إلى 29 في المائة، بينما عند النساء 27 في المائة، بينما بلغت نسبة السمنة عند النساء 24 في المائة وفي الرجال 16 في المائة، وفقا لعدة دراسات نشرت حول معدل انتشارها وهي لا تختلف كثيرا عن بقية دول الخليج». واعتبر الدكتور محمد علي السمنة من أبرز التحديات الصحية التي تواجه المجتمعات الخليجية وخصوصا المملكة لاعتبارات عديدة، ودعا إلى تفعيل كل البرامج الوقائية التي تتناول خطورة السمنة، وما يترتب عليها من مضاعفات خطيرة قد يتجاهلها الفرد. ويتفق المواطن حسن عبدالله علي مع نظرية الدكتور محمد علي، لكنه يسلط الضور على جانب مهم يتلخص في مسببات المرض على خلاف الجهات الصحية التي تركز على معالجة آثارها عن طريق الحمية والرجيم والنظام الغذائي الصارم، مشيرا إلى أن أغلب المستشفيات والمراكز الصحية تعتبر معالجة السمنة عملية تجميلية تنتهي بإكساب الرشاقة والنحافة المطلوبة، مع أن الدول الغربية مثلا تعتبر السمنة داء خطيرا يستلزم العلاج والاستئصال. ويعيب المواطن باريان على وزارة الصحة عدم اهتمامها بهذا الجانب المرضي الخطير، مستغربا عدم وجود اختصاصيين لمعالجة السمنة والبدانة، في حين تزخر المستشفيات والعيادات الطبية باختصاصيي الجلد وتقويم الأنف والأسنان ما يعني أن مناهج الصحة نفسها تحتاج إلى إعادة تقويم وتقييم. ويتفق المواطنان تركي المطيري وداوود لافي في رأيهما، أن الصحة تبذل جهودا كبيرة في توعية المجتمع، إلا أن الملاحظ أن الحملات لا يستفاد منها كما ينبغي، واقترحا إيجاد حلول علاجية موسعة، منها: إنشاء أندية لممارسة رياضة المشي، وزيادة أعداد مراكز علاج السكر ومراكز مكافحة التدخين. البيضاء والزرقاء والسرطان كشف استشاري طب وجراحة العيون في مستشفى القوات المسلحة الدكتور ياسر عطية المزروعي، أن أمراض العيون لا تعتبر من الأمراض الخطيرة مقارنة بالأمراض الأخرى، إلا أن الدراسات الطبية في المملكة أوضحت أن 55 في المائة من المواطنين يعانون من قصر وطول النظر، وتعتبر المياه البيضاء والزرقاء وحساسية العين والتهابات العيون من الأمراض المنتشرة بين الرجال والنساء وخصوصا بعد تجاوز سن ال 50. وأبدى استشاري علاج الأورام الدكتور هدير مصطفى مير، مخاوفه من ارتفاع نسب المصابات بسرطان الثدي، خصوصا أن النسبة تجاوزت 19 في المائة من مجمل أنواع السرطانات الأخرى، موضحا «أن سبب المرض غير معروف تماما، ولكن توجد هناك عوامل تزيد من فرص الإصابة بهذا المرض، غير أن وجود واحد أو عدد من هذه العوامل لا يعني حتمية إصابة الشخص بهذا المرض، وهذه العوامل تشمل: التاريخ المرضي فاحتمالية الإصابة بسرطان الثدي تكون أعلى في النساء اللاتي لديهن أقارب من الدرجة الأولى (أم، أخت، وابنة) مصابات بهذا المرض، حيث ترتفع النسبة إلى الضعف، أما إذا كان الأقارب من الدرجة الثانية (الجدة، العمة، والخالة) سواء من ناحية الأم أو الأب فإن نسبة الإصابة ترتفع ولكن تكون أقل من الحالة الأولى».