ولد الفن إيحاء، فكانت كل مباشرة، تشويه له، وتزوير عليه، وفي أفضل الاحتمالات، مع التسامح الشديد، هي ثقل يحمله على كاهله سرعان ما يصيب العمل الفني، بذبحة صدرية والأيام تعمل وسع قدرتها واستطاعتها، على عزل الفائض، الزائد عن الحد، من العمل الفني، يصلح ذلك على بعض الفنون، كالنثر مثلا، وكالشعر أحيانا، فلا يتبقى منه سوى ما هو صالح للحياة، ممتد معها، لكنه لا يصلح مع كل الفنون، فالرسم مثلا، إما أن يبقى كله، أو يرمى كله، وليس أسوأ من المباشرة شيء، وفي الغناء خاصة، تبدو البشاعة مضعفة، لأنها تبدو مضاعفة، بالأمس استمعت إلى أغنية للمطرب «حكيم»، تقول بعض كلماتها: «قبل ما تخترعوا الذرة... إسعدوا كل البشر...، عيشوا الناس في أمان... وبعدين سافروا للقمر)، كلمات مباشرة فجة، كلما حاول المغني إبراز قدراته الصوتية على السلطنة فيها، زاد طين الرداءة بلة، وهو حين يصل إلى المقطع الذي يقول: «والحياة هي المعادلة الصعبة لوجودك يا دنيا»، تكون قد وصلت إلى قمة النفور والاشمئزاز ، من عمل كهذا يسحل الفن من قدميه في التراب والوحل، بحجة تقديمه رسالة أخلاقية إلى العالم، إن أغنية حب واحدة بسيطة ومتأملة، يسكنها الإيحاء، ومهما كانت خصوصيتها، أكثر فعالية وإنسانية من غناء كهذا، قد تكون النصيحة بجمل، لكنني شخصيا على استعداد لإعطاء جملين، فيما لو استطعت مقابل أن يتوقف المغني عن تقديم نصائحه، مموسقة ومغناة، قد يكون أمر مغني شعبي، مثل شعبان عبد الرحيم مقبولا، وهو يبشرنا بتركه للسجائر، التي لو كان قد تركها فعلا، لتحسن صوته قليلا، ذلك لأنه يطرح أغنيته كلعبة تسلية، ويتصرف كمهرج، ولا يريد منا معاملته على أنه أكبر من ذلك، لكن حين يتقدم مثل حكيم زمانه، بمثل هذه الأغنية، فهو يريد منا معاملته على أنه مطرب كبير، ويريد منا التصرف معه على أساس أنه مطرب شعبي، وليس مغن شعبي، أسفخس على هكذا غناء !.