في طريق عودتي إلى أمريكا.. كان التعب يصافح المسافرين المواصلين السفر ويصعد معهم السلالم ويتوزع مثلهم في المقاعد إلا أنا فقد كنت مبتهجاً وأنا أربط حزام مقعدي فاليوم سوف أرى زوجتي وأولادي وأحفادي وأعود إلى منزلي .. أخرجت من حقيبتي كتاباً ابتعته من مكتبة الساقي في لندن عنوانه «رحيق العمر» وهو الجزء الثاني من السيرة الذاتية للدكتور المفكر الاقتصادي والأستاذ في الجامعة الأمريكية «جلال الدين أحمد أمين».. كان الجزء الأول بعنوان «ماذا علمتني الحياة» قرأته قبل ثلاث سنوات ولم تأتني الفرصة لأكتب عنه .. ومن لا يعرف الدكتور جلال الدين أحمد أمين هو مفكر جليل بل يعتبر من أهم المفكرين المصرين الأحياء أن لم يكن أهمهم وهو ابن المؤرخ الإسلامي الشهير أحمد أمين صاحب «فجر الإسلام» و«ضحى الأسلام» وهو شقيق الكاتب حسين أحمد أمين .. هذه البيئة الفكرية المحرضة التي نشأ فيها وهي كما ترون ليست بيئة عادية جعلت من السيرة الذاتية التي كتبها والتي أتبعها بهذا الجزء أبعد ما تكون عن سيرة شخصية بمعناها المباشر بل هي بمثابة سيرة ذاتية لتطور بلاد بأكمله خلال ستة عقود، وهذا التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي يشبه إلى حد كبير التطور الذي حدث في بعض المجتمعات العربية الأخرى، الكتاب شيء من المستحيل إن كنت تتمنى المستحيل، فعين المستحيل أن تجد سيرة ذاتية عربية بهذه البساطة والعظمة والرقي والصدق، الدكتور جلال أمين في هذا الجزء بالذات واضح كصفحة السماء بعد الشمس، يبعثر الأسرار بما فيها العائلي المحض على أسطر الكتاب ويمضي للحقيقة، كل شيء عند جلال أمين في هذا الكتاب مطلق، كل شيء وقع عليه نظره ينطق به، يبوح به بكلام يشبه الأجراس النحاسية وهي ترن في قرية تغوص في السكون، يتحدث عن أشياء شديدة الخصوصية، شديدة الحساسية، يحرك الجمر .. الجمر كله .. حديثه صراخ مكشوف من رجل لا يعرف المشي بمحاذاة الأسوار، كل شيء يومض في يديه .. يرسم الحياة التي عاشها بالفسفور يرسم النهار كله ويطرد الظلال من مكامنها .. عالم حقيقي أصيل يحرض نفسه على جمال أكثر، يتكلم بحنجرة الماضي والحاضر، يتحدث عن طفولته برشاقة حتى تحسبها على مرمى وهم، يتحدث عن طفولته والكتب الملونة وأصوات الطيور وهمس الرياح ونداء المطر وضحك الشوارع النظيفة وحديث الحدائق والشجر ونظام التعليم الراقي في ذلك الوقت، ويوضح كيف ولماذا اختفى كل ذلك الرحيق! يعلل لماذا لم تحتفظ الأشياء بألوانها! ولماذا تخيب الأمال! يمضي في السرد كأنه يسبح على الرمل يغطس ثم يرتفع يجر خلفه ألعاباً نارية تضيء السماء .. يبرر أشياء خاصة تتضمنها سيرته في فصل بعنوان مذكرات «أبي عن أمي»، يقول «لقد مرت 57 سنة بين نشر كتاب أبي «حياتي» ونشر سيرتي الذاتية وهي مدة طويلة طرأت خلالها تغيرات كثيرة على الحياة الاجتماعية كان من شأنها أن تجعل بعض ما كان مستحيلا ممكناً وبعض ما كان ممكناً مستحيلا تغيرت الأذواق فجعلت المكروه مستحباً وبعض المستحب مكروهاً»، هناك أشياء كثيرة تشدك في هذه السيرة .. يصور في عفوية صادقة كيف كانت الحياة طازجة في الحي الذي سكنه حي «المعادي» حيث كان الناس يتجاورون في البيوت والوجود وكيف كان الهدوء مطبقا والأشجار باسقة والهواء نظيفاً.. يتحدث عن كل ذلك في أوائل الستينيات الميلادية وكيف أضحى ذلك السكن جحيما بعد بداية عصر الانفتاح في السبعينيات والتغيرات الجزرية التي حدثت في المجتمع، يستوقفك تصويره ووصفه الدقيق لشخصية «جان» زوجته الانجليزية يتكلم بإحساس عميق عنها يجمد الفقرات في أصابعك، تحس في بعض الفصول بالمياه تسيل في داخلك وأن الحجر يرق وفي فصول أخرى تحس أن النار في الهواء عمود ثابت أمامك خاصة عندما يصف همومه ووساوسه وقلقه المتصل عن مرض كان يعتقد أنه أصيب به مرض «Behcet» ومكتشف هذا المرض الخطير عالم تركي.. يتحدث في النهاية كأسوار الحقول التي تحنيها السنوات يقول «إن الحياة مهما طالت محدودة وأن لا أحد يعيش أبداً»، هذا كتاب لا أستطيع تلخيصه في مقال أو حتى عشرة فهو قيمة شامخة في السيرة الذاتية لرجل يبصر أبعد مما نرى في شتى مجالات الحياة، هذا كتاب لكاتب من طراز رفيع فهو فريد في طرحه يغني كحمامة تهدل في الصدور .. في سرده طعم الأمواج ولمعة الشمس .. رجل له ذاكرة الأماكن وحنجرة البراكين .. يكتب بلاقناع .. يحرك الأشياء من أماكنها، رجل كلما مر يوماً إزداد بهاء وفكراً يتحدث في كل اتجاه عن أحياء وأسماء وصور وزعماء وألقاب وعناوين وأفلام ومسرحيات ورسائل ومواقف وحوادث الكتاب مسك زمان مضى وزمان سيأتي لأنسان منسجم مع نفسه وجسور. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 134 مسافة ثم الرسالة