اليوم التالي في العيادة، كان غريبا بحق، عثرت بالكاد على ركن قريب أضع فيه عربتي، وكانت ثمة ثلاثة باصات من ماركة (روزا) اليابانية، تقف أمام العيادة مباشرة، ويتدفق منها العشرات بين رجال ونساء وأطفال. توجست بشدة، وأكاد أوقن تماما أنهم معزون جاءوا بهذه الكثافة، ولا بد أن أحد أفراد أسرة عز الدين قد توفي فجأة، خاصة أنني لم أشاهده صباحا في المستشفى، يقف أمام كشك التجاني المغروس في وسط الحوش، يتناول فطوره المعتاد المكون من سندوتشين من الفول. تخبطت وسط الجموع حتى دخلت، وعثرت على ممرضي العجوز بعيدا تماما عن أية ماسأة، كان مبتسما بشدة، وقد امتلأت صفحة كاملة من دفتره القديم ذي الغلاف الأزرق، بأسماء المراجعين، وما زال يعمل على التسجيل بنشاط غريب. كان ما لفت نظري في أولئك المرضى الفجائيين، أنهم جميعا بملامح واحدة، تنتمي لقبيلة البني عامر المعروفة في الشرق، يرطنون بصخب، يرتدي رجالهم الصديري والسروال، وترتدي نساؤهم ثيابا ملونة رخيصة، وأساور من القصدير تحيط بالسواعد والأعناق. سألت عن ذلك الزحام غير المتوقع، فأجابني الممرض وهو ينهض، ويتقدمني إلى غرفتي، بأنه رزق جاء من السماء، وكان مخطئا، لأنني جلست على طاولتي أنتظر، طال انتظاري، ولم يدخل أحد، سمعت بعد ذلك صخبا هائلا بالخارج وانفتح الباب فجأة، لأرى عز الدين يدخل متورم الوجه، يدفعه نفر من أولئك المرضى الفجائيين وقد أمسك أحدهم بيديه، لواهما خلف ظهره، وقفت أستطلع الأمر ،ليتقدم مني أحد أولئك المرضى، كان شيخا في نحو السبعين، يرتدي عمامة من قماش الكرب الشفاف، وصندلا من جلد الماعز تطاير منه الوبر،، كان كما يبدو متحدثا رسميا لتلك الفوضى الغريبة ولا بد أنه تدرب على مخاطبة الأطباء من قبل،لأنه خاطبني قائلا بلا مقدمات: هل تبيعون الإنسانية يا طبيب؟ لا أفهم ما تعني. قلت ولم أكن أفهم بالفعل، ولا كان عز الدين في لحظة غضبه وتورم وجهه قادرا على إفهامي، كان قد تحرر من قبضة الرجل الذي لوى ساعديه، وقف منتصبا في مواجهتي، لكن صدره كان يعلو ويهبط، ويتصبب من جسده العرق. وقد كان ذلك الممرض القديم الذي ينتمي لقبيلة المحس في أقصى الشمال، قليل الغضب فيما مضى، وصبورا عرفت صبره أثناء مساعدتي في الجراحة ،ولم أره بهذه الصورة أبدا من قبل). كان هذا مقطعا من (قلم زينب) سيرة روائية أعمل عليها الآن، وتختص بأيام عملي في مدينة بورسودان، لقد أحببت كتابة السيرة، ولكن دائما ما أقول أن السير حين تكتب، يجب أن تكتب بصدق، وأعتقد أنني كنت صادقا في قلم زينب بالرغم من المشاهد والشخصيات التي قد تبدو للقارئ، غريبة وغير مألوفة. إنه الواقع الذي يبدو عجائبيا في الكثير من تفاصيله. للتواصل أرسل رسالة نصية SMS إلى الرقم 88548 الاتصالات أو 626250 موبايلي أو 727701 زين تبدأ بالرمز 104 مسافة ثم الرسالة