يستيقض موسى القرني منذ خمسين عاماً تارة ما قبل الهزيع الأخير من الليل وتارة في منتصفه يطارد أشباح المدمنين ملغياً بإخلاصه روائح إدمانهم حينما يتعاطون في الغرف والممرات المترامية الأطراف في قصر خزام في حي النزلة في جدة، وهو يدرك تماماً أنه قد لا يعود أبداً إلى أفراد أسرته الصغيرة التي كانت تضم زوجة وابناً وبنتاً تسكن أحد أركان القصر، وذلك بمجرد أن يسرج أحد المدمنين الخوف أو التحدي لنزواته المعروفة بالعنجهية في مواجهة الحارس الأمين. ولكن الخمسين عاماً من الصرامة والجدية المنحنيتان على عكازي الزمان لا زال لهما ذات الوقع لدى من تسول له نفسه اقتحام واحد من علامات جدة الفارقة، فبمجرد سماع أي دخيل لدوي صوت عكازات موسى بين جدران القصر المهجور كفيلة ليكون الوضع قد حان للحد من حالات التسلل المتكررة، ولربما كان لوجع فقد الزوجة وابن له من العمر تسعة أعوام بين جنبات ذلك القصر دور في ذلك، خاصة أنها ممزوجة بخوف مهيب على فلذة كبده التي لم تتجاوز عامها العاشر بعد. يسكن موسى القرني القصر أو القصر يسكنه و يقول «تقدم بي العمر يوماً بعد آخر وتناولتني الهموم والأحزان تباعاً فمنذ وفاة شريكة حياتي قبل سبعة أعوام دفنت أحزاني على فراق حبيبتي في قعر صدر كان ذات يوم لا يلين وتكتمت الآلام أشكلها بمرارة الفقد ابتسامات ترسم لطفلي وشقيقته بدايات طريق مستقبل أشاركهما إياه ما شاء الله من السنين، ولكن كان للقدر معي عبوساً أشد بؤساً من فراق الحبيبة، فطال غدر مفاتيح الكهرباء براءة روح ابني ولم تدعه إلا جثة هامدة أقلبها ذات اليمين وذات الشمال، فدفنت معه ثلثا من حياتي وبقي مني الثلث يربت بكف على شقيقته العنود وتمسح الأخرى دموع لا تجف ما طال بي عمر الشقاء». يجر القرني خلفه سنوات الحرمان ويتكئ بسبب حادث خاطف على عكازين حينما ينهض من على كرسي العجلات «لم تدعني صروف الزمان أصرخ في وجه المتنكرين للطفلة الصغيرة فاغتالتني سيارة مسرعة حطمت قدمي اليمنى بكسور مضاعفة يصعب شفاؤها لعامل سني الكبير، فأصبحت شبه عاجز إلا من حب وشفقة تجبرني على الوقوف رويداً رويداً أسامر طفلة يتيمة وكلما تحركت يمنة أو يسرة على الكرسي المتحرك وجدت نفسي بعيداً عن آلام لم يعد لها في أحاسيسي مكان للمبيت». وطالب القرني من القائمين على قصر خزام والجهات الخيرية وفاعلي الخير مد يد العون له ليس لعلاجه إذ يعتبر أنه لم يعد هناك ما يسره بعد ما قاساه من ويلات الحياة ولكن لتأمين منزل وبيئة صحية تعيشها صغيرته العنود «أريدها أن تلتحق بمدرسة لتنهل من العلم ما يصبرني على الحياة».