4/2 أحسب أن مسرحية «امرؤ القيس» التي دشنت العهد الجديد لإحياء التراث «سوق العكاظي» في ثوبه الحديث، غابت في ليلة قمرية أعلى سفوح جبال الطائف.. والسبب بلا مقدمات أن مثل هذا العمل ما كان ينبغي له أن يبقى أسفل مساحة، لا يتعدى عمقها الجغرافي حدود الهدا، مجرى السيل، ظلم، فكان الغياب واضحا عن محفل كان من المفترض أن تولد فيه تلك المسرحية. لكن ما دام الأمر قد يتبلور في معنى إحياء التراث من الداخل أولا، فإن وضعية المسرحية التي ظهرت بها ، وشكلية الطرح، وتقنية الأداء، تجعلنا لا نشك لحظة واحدة في أن المسرحية نجحت في الهدف، ونتمنى ألا تفشل في الانتشار. وأزعم أنني زرت مسارح الكثير من دول العالم، فلم أجد تقلصا في كمية المعروض أو ضمورا في حجم الطرح، أو انكماشا في كم الحضور، بل على العكس ما وجدته يدعوني للتأكيد على أن المسرح لم ولن يتخلى في يوم ما عن البساط الأحمر، الذي لطالما تربع عليه، حتى القنوات الفضائية التي رضخت لواقعية الرغبات السطحية بإعلاء لغة الغناء والمسلسلات وأفلام «الأكشن» والشبابية، لازال يعاودها الحنين من آن لآخر، في استعادة ما يمكن أن يمثل المسرح الحقيقي سواء في أواخر القرن الماضي، أو ما يقترن بروح العصر الحالي. ما وددت التأكيد عليه هو أن الصراع الخفي بين قدرة المسرح بشكل عام على الصمود، وإمكانية النبوغ في وسط إيقاع العقم، الذي اعتادت عليه آذاننا هذه الأيام، يجعلنا قادرين بشكل أو بآخر على التشريح الدقيق لنجاح عمل مسرحي في الوقت الراهن، لكن «امرؤ القيس» التي توشحت بعباءة التاريخ، لم تكن إلا اختبارا حقيقيا، واسترجاعا لنمطية المسرح القديم، وإن بدا مرتكزا على إيقاعات عصرية سواء من مؤثرات صوتية أو إضاءات أو غيرها. المهم في الأمر أن «سوق عكاظ» لم توقظ امرأ القيس القديم، ليعود بزي معهود تتمايل خيوطه على خصر الراكضين، وتتنازع أقنعته مع أنوف المشاركين، بل أيقظت على ما يبدو حراكا سعوديا من نوع خاص، كنا أو كانت الغالبية منا تجزم أنه دفن منذ عهد بعيد على صورة (وأد البنات) في الجاهلية، فما رأى الجيران طرف عينها، وما تشبعت الأم بجرعات حنانها. فما كرسناه في نفوسنا، أن المسرح السعودي ذهب بلا عودة، وإذا حاولنا التأكيد على أن الذهاب يعني الوجود قبل معنى الرحيل، أمطروا أسماعنا بما يمكن أن يهدم صوامع. لكننا بالأمس، وقد واجهت عيوننا، وتشنفت أسماعنا بأمر واقع، كان علينا أن نخضع المواجهة، لاختبار لا يتعلق بالحمض النووي (DNA)، لأن النسب لم يكن حاضرا في يوم ما بالقدر الذي حضر في يوم «سوق عكاظ»، لكن الاختبار دار حول عنصري المعاصرة والمنافسة. وأعتقد أنه لو أتيحت لي الفرصة مجددا لما ترددت في حضور ذلك النمط من الأعمال، التي لا يجوز وصفها بالتميز، لأن المعنى لا يرتديه الوصف، بالقدر الذي يتداعى معه العطف، فالتميز في نظري يجرنا إلى جيد ومميز وأميز ، وما دام التكرار كلمة، لم نعهدها في قاموسنا السعودي، فالأفضل ألا ندع التميز يقترن بالوحدة، فمن العجيب أن نصف وردة وحيدة في صحراء قاحلة بالمتميزة، لكننا يمكن أن نصفها بالفريدة، إلا أنني من باب الحيادية للمسرح السعودي، لم أر أنه ولد في ذلك السوق، فالطبيعة علمتنا أن ولادة الجنين عاريا، والبقاء على قيد الحياة مرتبط بتوفر الأوكسجين وعناصر التنفس الضرورية، وأعتقد أن ما توفر لمسرحية «امرؤ القيس» كان مناخا صحيا بدرجة كبيرة، لكنه مع ذلك لا يسمح له ببناء جسد قوي ينافس الآخرين، إذن نخلص من ذلك أن المسرحية ولدت وفي خاصرتها عنفوان الشباب، مما جعل انطلاقتها للأمام، أسهل بكثير من بقائها على كرسي الانفرادية في جو الصحراء.. الكل في الغرب يعرف أن المسرح أبو الفنون، فتتاح له المهرجانات الواحد تلو الآخر، إلا نحن لا نعرف إلا أنه مضيعة للوقت، ومهدرة للجهد، لكن يبدو أن إيقاع (امرؤ القيس) فرض علينا رؤية مختلفة للعاقلين، لأنه يجب ألا نسمع صدى كلامنا، ونخرج إلى حيث الفضاء الفسيح، فما قدمته الأيام السعودية في الخارج لا يتجاوز محاولات لعرض شيء من التراث من مجرور وصهبة ومزمار وغيرها، حتى بات الغرب لا يرانا إلا بمنظور «الفوطة والعمامة والبقشة»، فيما خلف الظل عمل يستحق التقديم، ويستوجب التعميم، لا على البقاع في الداخل التي ما عادت تعرف من الجر إلا حرف الباء، وترى أن حروف الجر تنوب بعضها عن بعض، لكن الخارج يعرف أن الحروف ألوف، وأن التمييز بينها يجب ألا يكون في الشكل، بل في المضمون.. دعونا يا وزير الثقافة والإعلام نخلع «الفوطة» لمرة واحدة، ونرتدي ما ارتداه «امرؤ القيس» في ليلة الطائف، فتنعم بها مدننا، ونخرج عن حدودنا، فإن نجحنا على المنافسة وأتوقع ذلك فما خسرنا إلا التجمد عند نقطة الصفر، وإن خسرنا المنافسة، أفلا يكون كسبنا التغيير من واقع إلى آخر، ومن عصر إلى آخر، وأحيينا في نفوس من هم في الداخل، قبل من هم في الخارج، إن حروف الجر ليست باء، وإن التميز يعني كيفية الانتقاء، فنحن أمة تعرف من اللغة القوامة، ولا يجوز أن نبقى في خانة الصفر، وإن كان في خارطة المسرح.. ولنا عودة.. الأوبريت إيقاع اعتيادي.. فما جديد سوق عكاظ؟!.