من يقلب صفحات تاريخ الخليج العربي وسير رجالاته من الرعيل الأول، يجد الكثير من الحكايات والصور الزاخرة بالكفاح والعمل الشاق من أجل بناء الذات وتنمية الوطن والارتقاء بأحوال المجتمع في زمن الموارد القليلة والحياة البسيطة وقلة الحيلة، كما سيجد صورا لا تحصى من أعمال الخير والبر والإحسان. من هؤلاء الرجال -وتحديدا في كويت ما قبل اكتشاف النفط وتصديره- الوجيه المرحوم ثنيان ثنيان الغانم الذي يعد رمزا من رموز النهضة الاقتصادية في بلده، ومنبعا من منابع الخير والعطاء، ونموذجا لكفاح الآباء والأجداد الذين حفروا في الصخر وجالوا في البحار والمحيطات وتغربوا في بلاد الهند والسند بعزيمة لا تلين. مواليد الجبلة ولد ثنيان الغانم في عام 1889م بمنطقة الجبلة (القبلة) من العاصمة الكويت ابنا أخيرا لوالده ثنيان الغانم المنتمي لأسرة الغانم العريقة المعروفة التي يعود نسبها إلى آل الزيد من العلي من الدهامشة من العمارات من عنزة المشهورين بالكرم والسخاء. وجاء ميلاده بعد وفاة والده وهو في بطن أمه فأطلقوا عليه اسم والده، كما جرت العادة قديما في مثل هذه الأحوال، علما بأن والده كان من كبار نواخذة البحر الكويتيين في القرن التاسع عشر، ومن ذوي الخبرة المرجعية الواسعة في فنون الإبحار وأصول الغوص، وحينما رحل كان قد ترك خلفه ابنين هما محمد ويوسف وابنة تدعى فضة. والدته هي «بزة بنت عبدالله يوسف الصقر»، من عائلة الصقر المعروفة التي تتحدر أيضا من آل الزايد من عنزة ممن نزح جدهم الأول محمد بن غانم وأولاده إلى الكويت من وادي الهدار بمقاطعة الأفلاج النجدية في أوائل القرن التاسع عشر. وبعد أن توفي زوجها قررت أن تنتقل إلى بيت أهلها كي تتفرغ لتربية أبنائها وتنشئتهم النشأة القويمة. وهكذا كانت تنشئة ثنيان ثنيان الغانم بين أخواله صقر وأحمد وحمد أبناء عبدالله الصقر، وكان من الطبيعي أن يقتدي بوالده (بعد أن كبر) لجهة الانغماس في التجارة والإشراف على بناء السفن وإدارتها والتخصص في حياة البحر والإلمام بأسرارها، ناهيك عن تأثره بأخواله الذين كانوا من أهل التجارة المعروفين أيضا، بل قام هو وشقيقيه محمد ويوسف بمشاركتهم في العمل التجاري ما بين الكويت والبصرة وبومباي وكراتشي وكاليكوت، حيث قام ثنيان ومحمد ويوسف بتكوين شبكة تجارية مع خالهما حمد عبدالله الصقر وابن خالهما يوسف صقر الصقر، مع توزيع المهام بينهم جغرافيا. فكان يوسف مقيما في كاليكوت على ساحل مليبار، ومحمد وثنيان يتنقلان ما بين بومباي وكراتشي والبصرة والمحمرة، الأمر الذي ساهم في تميزهم تجاريا. النوخذة أخوه الأكبر هو محمد ثنيان الغانم المولود عام 1882 والمتوفى عام 1966، الذي دخل البحر في سن الثانية عشرة، وصار خلال بضع سنوات نوخذة يقود سفن أخواله من آل الصقر ما بين الهندوالكويت، ومنها سفينة «فتح الباري» التي كان يقودها في رحلات موسمية ما بين شط العرب وموانئ الهند الغربية، ناقلا التمور إلى الأخيرة، قبل أن يصبح وكيلا لأخواله في «بندر براول» الهندي منذ عام 1907، حيث كان يمضي نصف عام في الهند ونصفه الآخر في الكويت. ومما لا شك فيه أن هذا أكسبه خبرة عملية في التجارة والإبحار، وربطه بعلاقات وطيدة مع الوسطاء العرب والتجار الهنود ونظرائهم في موانئ الخليج العربي وعدن. وحينما توسعت تجارته مع أخيه ثنيان الثنيان قرر بناء سفينة ضخمة لنقل الأطنان من البضائع الهندية إلى الكويت، فجلب أخشابها من الهند وأوكل عملية التنفيذ في عام 1937 إلى صانع السفن الكويتي الشهير «محمد عبدالله الأستاذ» الذي صمم وبنى السفينة «المهلب»، (نسبة إلى المهلب بن أبي صفرة)، التي عدت أكبر سفينة كويتية لجهة الحجم والحمولة آنذاك وتكلف بناؤها 15 ألف روبية. لاحقا (في عام 1923) انفصل محمد وأخوه ثنيان عن أخوالهما، وكونا تجارتهما المستقلة التي نمت بشكل متسارع وظلت تعمل مزدهرة لسنوات طويلة مع بقاء صاحبيها مرجعا تجاريا وبحريا لنواخذة الكويت وتجارها. كان هذا قبل أن يستقل الأخوان بأعمالهما ويتقاسما ممتلكين شركتهما، حيث آلت السفينة «المهلب» إلى ملكية ثنيان ثنيان، الذي أهداها في عام 1960 لدائرة المعارف (وزارة التربية والتعليم لاحقا) كي تكون شاهدة على تاريخ كفاح الرعيل الأول وصولاتهم وجولاتهم في أعالي البحار، رافضا عرضا مغريا جاءه من تجار إيرانيين لتملكها مقابل 60 ألف روبية (تم وضع السفينة في ثانوية الشويخ، ثم نقلت إلى المتحف الوطني في عام 1980، بعد إصلاحها وترميمها، وفي عام 1990 تعرَّضت لدمار وحرق متعمَّد من قبل جنود الغزو العراقي، فأمر الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح بعد التحرير بإعادة بنائها بنفس مواصفاتها، وهي الآن معروضة في المتحف الوطني). أما محمد ثنيان، الذي تصفه المراجع التاريخية بصاحب الكرم الحاتمي، كناية عن مساعداته الكثيرة للعاملين في البحر والغوص وتعويضهم عن أي خسائر تلحق بهم، دون الكشف عن هوياتهم تجنبا للحساسية وحفظا لكرامتهم، ناهيك عن تبرعاته المعتبرة لتأسيس المدارس ونشر العلم (على نحو ما فعله مع المدرسة الأحمدية)، فقد أشرك معه في العمل آنذاك ابنه الأكبر عبداللطيف محمد ثنيان الغانم (أحد خمسة أبناء رزق بهم). 10سنوات في كراتشي وعليه فإن ثنيان ثنيان الغانم هو عم عبداللطيف، والأخير المولود عام 1911 والمتوفى عام 1988، تلقى تعليمه في مدرستي المباركية والأحمدية قبل أن يأخذه والده معه في سن الثانية عشرة إلى كراتشي ليتعلم الانجليزية ويساعده في أعماله التجارية، حيث بقي هناك لمدة عشر سنوات مع التردد لفترات قصيرة على الكويت. وفي عام 1932 قرر أن يعود ويستقر نهائيا في الكويت ويدخل معترك العمل السياسي، فصار في عام 1938 عضوا في المجلس التشريعي الثاني ضمن أعضائه العشرين، وبعد الأحداث المؤسفة التي رافقت حل هذا المجلس سجن لمدة 4 سنوات ونيف، ليخرج ويصير عضوا في المجلس البلدي سنة 1954، كما كان رئيسا لبلدية الكويت عام 1962 لكنه استقال من منصبه ليرشح نفسه عن دائرة كيفان في انتخابات المجلس التأسيسي بعد الاستقلال، ففاز ووقع عليه الاختيار ليترأس هذا المجلس الذي أعد وأقر دستور البلاد في الثالث من نوفمبر 1962. وحينما فتح باب الترشيح لانتخابات أول مجلس للأمة شارك فيها لكنه خسر بحلوله في المركز الثامن. بعد ذلك تم تكليفه بحمل حقيبة الصحة في الوزارة التي شكلت برئاسة ولي العهد الشيخ صباح السالم الصباح عام 1963، كما أسندت إليه حقيبة الأشغال العامة بالوكالة سنة 1964، لكنه تفرغ بعد ذلك لأعماله التجارية. ..صديقاً مقرباً من أمير الكويت وبالعودة إلى ثنيان ثنيان الغانم (محور حديثنا) نجد أنه كغيره من أبناء جيله في تلك الحقبة المبكرة، درس في أحد الكتاتيب الأهلية، حيث حفظ القرآن وتعلم مبادئ القراءة والكتابة. غير أن مدرسته الأهم كانت ركوبه البحر مع أخواله، حيث كانت الكويت وقتذاك ممرا بحريا وبريا مهما لنقل البضائع بسبب موقعها الاستراتيجي في شمال الخليج العربي. وبعبارة أخرى فإن أسفاره إلى الهند للتجارة في سنواته المبكرة عرفته على ما لم يتح لغيره من أقرانه من مظاهر الحياة العصرية وعادات وتقاليد الشعوب الأخرى، ومخالطة الغرباء، ناهيك عن أن إقامته في الهند لفترات طويلة كانت كفيلة بتعلمه اللغتين الأوردية والمليبارية والكثير من المفردات والمصطلحات الإنجليزية الخاصة بعمليات البيع والشراء والاستيراد والتصدير والنقل. كل هذا، علاوة على ذكائه وفطنته ووعيه وبصيرته المستقبلية، جعله صديقا حميما مقربا من أمير الكويت الراحل، أبو الاستقلال والدستور، الشيخ عبدالله السالم الصباح، الذي كان دائم التشاور معه في الكثير من الأمور، خصوصا أنه عرف عن الشيخ عبدالله السالم رحمه الله عشقه للهند وتردده الدائم عليها. بعد اكتشاف النفط في الكويت وتحول اقتصادها من اقتصاد التجارة البحرية والغوص على اللؤلؤ إلى اقتصاد البترول، ترك ثنيان الغانم العمل البحري وأعمال نقل وتصدير التمور من المحمرة والبصرة إلى الهند واستيراد المواد الغذائية والأخشاب من الأخيرة، واتجه إلى أعمال تجارية أخرى إلى جانب النشاط العقاري. ومن أمثلة ذلك أنه بنى أول عمارة في شارع فهد السالم (مقابل بوابة الجهراء) في الخمسينات من تصميم المهندس المعماري المصري «سيد كريم»، جالبا لها الحديد والأسمنت من الخارج. لذا يعتبر الرجل أول من أدخل هاتين المادتين إلى بلده، حيث سافر بنفسه إلى بورتلاند بإنجلترا بصحبة ابنته هيا لجلب الإسمنت المقاوم للإملاح، وسافر إلى بلجيكا لتوريد الحديد، وسافر إلى السويد لجلب الأخشاب. ..مواكباً للمستجدات الاقتصادية تقول الأستاذة حصة عوض الحربي في الصفحة 353 من موسوعتها القيمة الموسومة ب «تاريخ العلاقات الكويتيةالهندية (من 1896 إلى 1965)» أن ثنيان الغانم كان «مواكبا للمستجدات الاقتصادية فاستقدم شركة مقاولات ألمانية لتنفيذ مشاريع إعمارية داخل الكويت، وكان من أوائل التجار الكويتيين الذين استثمروا في لبنان عام 1956، ثم اشترى في عام 1962 كمية كبيرة من أسهم شركة IBM التي كانت في بداية انطلاقاتها التجارية». اقترن صاحبنا بابنة خاله «شريفة صقر عبدالله الصقر، التي عرفت في المجتمع الكويتي بالكرم والسخاء، علما بأنهما ينتميان إلى الجد نفسه وهو المرحوم يوسف البدر. ورزق منها بعبدالله ومصطفى وخالد وصقر وفيصل ونورة وهيا وعائشة وبزة. ويعتبر ابنه فيصل ثنيان الغانم (توفي 2018) أول كويتي يتخرج برتبة قبطان أعالي البحار عام 1968 من إنجلترا، وقد عمل قبطانا على الباخرة «كاظمة» التي دشنت سنة 1959 كأول ناقلة نفط كويتية قبل أن يعين رئيسا لشركة ناقلات النفط عقب تأميمها. كما تعد ابنته هيا ثنيان الغانم (تزوجت من طالب توفيق النقيب وتوفيت عام 2020 عن 82 عاما) أول كويتية تتخرج في تخصص التاريخ واللغة الإنجليزية من جامعة لندن، علاوة على ذلك كانت ابنته عائشة ثنيان الغانم (تزوجت من مضر توفيق النقيب وتوفيت عام 2013 عن 76 عاما) أول كويتية تتخصص في التدبير المنزلي وتتخرج من معهد إيست بورن البريطاني. ولعل هذا يدل على ما كان يتمتع به ثنيان الغانم من فكر منفتح واستقلالية في الرؤى وإيمان بالعلم الحديث، فهو لم يكتفِ بإرسال اثنتين من بناته إلى بريطانيا في عام 1954 لاستكمال دراستهما فيها، وإنما أرسل أيضا ابنيه صقر وفيصل عام 1948 إلى كلية فيكتوريا العريقة بالإسكندرية، قبل أن يوجههما إلى بريطانيا لتلقي المزيد من العلوم العصرية المتقدمة. ومما كتب في هذا السياق، طبقا لجريدة الرأي الكويتية (4/11/2018) أن ثنيان وجه ابنه فيصل لدراسة الهندسة في اسكتلندا، لكن الأخير التحق سرا بكلية البحرية بمدينة كارديف في إقليم ويلز، وتدرب في البحرية الملكية البريطانية وأنهى اختباراته في مدينة نيوكاسل. ولما علم والده بأمره، سعد كثيرا باختيار ابنه لمهنة آبائه وأجداده، وسرّ أكثر لما علم أن ولده كان الكويتي والعربي الوحيد على البواخر الإنجليزية، في حين كان الباقون من الجنسيتين البريطانية والهندية. «المختصر».. ملجأ لسكن المترددين على الكويت الذين كتبوا عن ثنيان الغانم أجمعوا على أنه «كان رحمه الله كريما سخيا، ولم يترك طريقا للخير إلا وسلكه، ولم يسمع عن محتاج أو معسر إلا وكان سندا وعونا له». فطبقا لما ورد في سلسلة «محسنون من بلادي» الصادرة عن دار الزكاة بالكويت فإن ثنيان «كان وفيا مع أصحابه، عطوفا على عائلته، بارا بهم، ساعد بسخاء كل من يعرف من الضعفاء والمحتاجين داخل الكويت وخارجها. ولولا أنه كان يحب أن تكون أعماله الخيرية كلها لوجه الله تعالى، وفي الخفاء (حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنا تحدثنا عنها بالتفصيل». ومما يذكر له أنه كان يقيم موائد الإفطار السنوية خلال شهر رمضان ويشرف عليها بنفسه، كما يذكر له أنه بنى بيتا للضيافة أطلق عليه اسم «المختصر» وقت لم يكن في الكويت فنادق، فكان «المختصر» مكانا يلجأ إليه للسكن المترددون على الكويت من عرب وأجانب ويقيمون به شهورا، وأحيانا سنوات، دون مقابل. ومن هؤلاء الخبراء الذين اكتشفوا حقل برقان (أولى حقول النفط الكويتية) وأوائل أطباء وزارة الصحة وضيوف البلاد الأوائل من الخليج والوطن العربي. في 13 أغسطس 1967، انتقل ثنيان الغانم إلى جوار ربه، من بعد كفاح طويل وحياة حافلة بأوجه البر والإحسان. وكانت وفاته خارج وطنه، في مصيف بحمدون اللبناني. وتخليدا لذكراه قام ورثته بإنفاق مليون وسبعمائة ألف دينار كويتي على بناء «مركز ثنيان ثنيان الغانم لأمراض الجهاز الهضمي»، وهو مركز يقع ضمن حدود المستشفى الأميري، وافتتح عام 1988 ليقدم خدمات العلاج المجاني للمرضى، كما أنفقوا أموالا أخرى لبناء المساجد وحفر الآبار. وتكريما له وافقت لجنة محافظة العاصمة بالمجلس البلدي على توصية في سبتمبر 2013 بتسمية جزء من شارع عبدالمنعم رياض (الجزء الممتد من شارع عبدالله المبارك إلى شارع مبارك الكبير) باسم شارع ثنيان ثنيان الغانم.