المماحكة التقليدية على مدار التاريخ داخل المجتمع الواحد تتمحور حول مصطلحي (النهضة) و(الحداثة). ورغم أن (النهضة) مصطلح إيجابي مطلوب، إلا أن الحداثة تحاول إثبات نفسها على حسابه. الاتفاق الظاهر بين المصطلحين ورغبة كليهما في مواكبة الحضارة -أي علاقة الإنسان بالطبيعة ودرجة سيطرته عليها بالمنتجات المادية- تفرّقه طريقة التنفيذ لكليهما. النهضة تكتسب اسمها من توافقها وتصالحها مع التراث ونظرتها الإيجابية للحضارة؛ أي أنها تعمل بمهارة على النهوض بالتراث ليواكب الحضارة العالمية. أما الحداثة فإنها تبدأ صفحة حضارية جديدة تقصي فيها تراث المجتمع، وكأنها تتخلى عن الثقافة المحلية وتجتهد في الاندماج في ثقافة أخرى وتماثِلها في المظاهر الاجتماعية. المفهوم الحالي للحداثة -في كثير من الثقافات الشرقية- هو التشابه مع ثقافة الغرب باعتباره مصدر الحضارة المادية العالمية. وفي هذه الحالة، تهبط الحداثة وتنحدر بذهنية المجتمع ليتبنى مفهوما مغلوطا للانفتاح. لهذا، تبدو الثقافات المحلية -على مستوى شعوب العالم- عاجزة عن استيعاب قيم الحضارة الإنسانية إذا تبنت (الحداثة) وليس (النهضة). هذا لا يمنع من إنصاف الحداثة بأنها طريق مختصرة نحو الحضارة، ولكن.. بمعزل عن الهوية الذاتية. قواعد أي مجتمع وقيمه مرتبطة بحقب زمنية وبيئية شكّلتها من عمق الزمن وتكيّفت معها لتصنع نظامه الثقافي. إذا تم كسر هذا النظام، يفقد الأفراد الثقة في ثقافتهم.. وبالتالي، يندمجون في ثقافة خارجية أخرى.. وتزداد الهوة بين الماضي والحاضر.. ويصعب التفاهم بين طبقات المجتمع وشرائحه، وتصبح الأفكار المحافظة التي تحاول الإبقاء على التراث الماضي مرفوضة.. وربما تُتهم بالرجعية. المهارة تكمن في الحفاظ -على الأقل- على الحد الأدنى من الاستمرارية بين الثقافة الاجتماعية التراثية والثقافة المعاصرة التي يأمل المجتمع أن يصل إليها. عدم وجود هذا الرابط بين الثقافتين، يولّد الاختلافات داخل المجتمع الواحد ويوسع حلقة الانفصال بين طرفين: الأول يتقوقع حول نفسه ويتعلل بالخصوصية المحلية ويرفض كل ما عداها، والثاني يرتمي في أحضان التغريب بكافة أشكاله، وكلتا الحالتين عواقبهما وخيمة. اتساع الهوة التي تصنعها الحداثة في المجتمع لا يمكن ردمها إلا بالعودة إلى مفهوم النهضة؛ أي العمل على تصالح التراث مع الحضارة. * كاتب سعودي [email protected]