ليس هناك قدرة يمكن معها استعادة أكثر من ثلاثين عاما من عمر السودان واسترجاعها، ومعها إعادة الوحدة السودانية بين جنوب مكلوم وشمال مأزوم، ناهيك عن اقتصاد افترسه الفساد ومزقته سوء الإدارة والتدبير. مثلما أن ليس هناك عقوبة واحدة تكفي للانتقام ممن أفرغ السودان من العقول والخبراء والمبدعين يهيمون على وجوههم بين مهاجرين ونازحين، فضلا عن إزهاق الأرواح في حروب لا طائل من ورائها، ناهيك عن تعويض من ضاعت أعمارهم خلف القضبان، بسبب عبقرية الأيديولوجيا وابتزاز قوى دولية. كتبت مقالا سنة 2014 بعنوان «السودان.. العطش وأسئلة الغرق» وكنت حينها أستغرب أن يستمر فيضان النيل كل موسم دون اتخاذ ما يجب من تدابير ضرورية من قبل الحكومة، رغم أن دولا كثيرة أفقر من السودان تغلبت على فيضانات أنهارها، حتى أبان لي الشارع السوداني مؤخرا كل ما خفي، بكلام تفهمه التنمية الغائبة والاقتصاد المنهوب وظلم ذوي القربى والإدارة الفاشلة، في ظل عطش المصالح الشخصية وفيضان الفساد ومفرزة الأيديولوجيا التي تأكل كل ما حولها ومن حولها حتى تأتي على أصحابها حيث يغيب القانون. يزخر السودان بالعديد من العقول التي يندر أن يخلو منهم بيت خبرة أو مركز معرفة بدءاً من البنك الدولي وانتهاءً بأصغر قسم في إحدى الجامعات. السودان لا تنقصه الموارد البشرية ولا تنقصه الموارد الطبيعية، ينقصه فقط هذه اللحظة التاريخية، ليعيد من خلالها السودانيون ترتيب أوراقهم، ويضبطوا معها ساعة التنمية حسب توقيت الديموقراطية التي يرتضونها وهي آتية لا ريب فيها، وإني على يقين بأن الزواج الحقيقي بين الديموقراطية والتنمية سوف يؤدي حتما إلى وحدة سودانية طوعية بين الشمال والجنوب. فالشخصية السودانية تتمتع بضمير حي وقيم عالية، نلحظها حتى بين أطفالهم وشبابهم ونلحظها حتى في مظاهراتهم السلمية والتي تمثلت بحضور نسائي راقٍ وحضاري من الطرفين، على مدى الأسابيع الماضية والتي سبقت ولحقت سقوط البشير. هناك أهمية اقتصادية بالغة للوحدة بين الجنوب والشمال السودانيين ليس من الآن، كانت محل نقاش خبراء واقتصاديين وتنمويين منذ ما قبل الانفصال، تنعكس على البترول والمياه والزراعة والبنية التحتية والطاقة، ناهيك عن الأسباب الاجتماعية الجمة والتي تجمع بين الشعبين والبلدين، بل إن حوالي مليونين من السودانيين الجنوبيين لا يزالون يعيشون بين أهلهم في الشمال منذ الانفصال سنة 2011 الذي جاء بعد استفتاء ونتيجة لاتفاق بين الطرفين، وذلك لوضع حد لحروب طاحنة ومريرة بين الطرفين وبين أطراف عدة من السودان، بسبب ضيق الأفق السياسي والرؤية الحدية للأيديولوجيا، التي لا تؤمن بالآخر، ولا تعترف به. إن استمرار الحراك الشعبي السوداني في رفع سقف مطالبه، مقابل استمرار المجلس العسكري الانتقالي السوداني في تقديم التنازلات، كفيل بتنظيف السودان من أيديولوجيا الفساد ومن أحزاب الديناصورات، وكفيل بتحويل السودان إلى واحة ديموقراطية ونموذج اقتصادي أفريقي عربي فريد من نوعه، وكفيل ربما بإعادة الاستفتاء على عودة الجنوب إلى الوحدة السودانية الجديدة الخالية من البشير والإنقاذ، لأن الجنوبيين للأمانة عانوا ما عاناه أهل الشمال وأهل دارفور بسبب نظام الإنقاذ. بل إنهم كابدوا صعوبات اقتصادية وأمنية جمة بعد الانفصال مثلهم مثل الشمال وأسوأ. فهل تفضي التطورات التي تشهدها الخرطوم إلى إعادة التفكير بالمصير المشترك بين السودانيين في الشمال والجنوب؟ سواء من خلال إعادة إجراء الاستفتاء، أو من خلال مراجعة الاتفاقات بين الطرفين وبرعاية الاتحاد الأفريقي. * كاتب سعودي [email protected]