قال الزميل أحمد العرفج في إحدى مداخلاته على ضيفه الثابت عدنان إبراهيم في تلك الحلقة المذكورة في مقالنا الماضي: إن أكاديمياً وباحثاً سعودياً في كتاب له عن حركة الصحوة، ذكر أن غياب مؤسسات المجتمع المدني ساعد على بروز وظهور حركة الصحوة، هل هذا صحيح؟ أجابه عدنان إبراهيم: هذا – بلا شك – صحيح. وهذا - حقيقة – لا يتحمله الصحويون، بل يتحمله المجتمع كله وحتى السلطة السياسية التي تضيّق - أيضاً – على مؤسسات المجتمع المدني تتحمله، ولا تعطيها – للأسف الشديد – الفراغ والفضاء الكافي. وسائر المجتمع – أيضاً – هو مسؤول. إجابته هذه إجابة متخبطة ومتضاربة في أكثر من وجه. فإجابته انطلقت من أن «بروز وظهور حركة الصحوة»، خطيئة وإثم! وبما أن إجابته انطلقت من هذا التصور العجيب، فلقد حاول أن يبرئها من هذه المسؤولية – جرياً على عادة الصحويين في التنصل من تبعة أفكارهم – ويضعها في رقبة المجتمع أولاً، ورقبة السلطة السياسية ثانياً! يضعها في رقبتهما وحدهما. إنه لم يكن بحاجة إلى تلك التبرئة – ولا كذلك كانت حركة الصحوة بحاجة إليها – فالحركة الإسلامية حين نشأت في العالم العربي والعالم الإسلامي لم تقطع على نفسها عهداً دينياً، بأن تظل حركة خاملة، مستترة، مغمورة، ومطمورة، محدودة، لكنها بعد حين من الزمن نقضت هذا العهد، فاستباحت ما حرمته على نفسها، من التمتع بنعماء البروز أو الظهور وآلاء الصعود والتمدد والانتشار. قد يقول معترض، مصححاً لنا فهم إجابته: إن إجابته اتجهت مباشرة إلى تحديد عمّن هو المسؤول عن غياب مؤسسات المجتمع المدني، فحمّل المجتمع ككل مسؤولية ذلك، وحمل السلطة السياسية مسؤولية التضييق على مؤسسات المجتمع المدني وأراد أن يبرئ حركة الصحوة من المسؤولية الأولى، مسؤولية غياب مؤسسات المجتمع المدني. وأقول: إننا حتى لو أخذنا إجابته وفق هذا الفهم، فإنها تبقى إجابة متضاربة، فهي بما يخص المجتمع تقول بغياب مؤسسات المجتمع المدني، وبما يخص السلطة السياسية تقول بوجودها لكن السلطة السياسية تحد من فعاليتها ومن إطلاق الحرية اللازمة لها. وفي الحالة الأولى، حالة غياب مؤسسات المجتمع المدني، لنا أن نسأل: لماذا يعفي حركة الصحوة من تحمل مسؤولية السعي وراء إشادة مؤسسات مجتمع مدني، ويقصر مسؤولية ذلك على المجتمع ككل، ويخصه باللوم، مع أن حركة الصحوة أو الحركات الإسلامية منذ عقود طويلة، هي الفاعل الرئيس في صوغ المواقف وتشكيل الآراء والمواقف في المجتمعات العربية؟ إن سؤال العرفج – كما ترون – لم يكن سؤالا معقداً ولا مبهماً ولا مطاطياً قابلاً لكل إجابة، فهو سؤال بسيط وواضح، فهو قد نقل تعليلاً من كتاب يذهب صاحبه إلى أن غياب مؤسسات المجتمع المدني ساعد على «بروز وظهور حركة الصحوة» ثم سأله عن صحة هذا التعليل؟ استناداً إلى صيغة هذا السؤال واستناداً إلى منطق إجابته، أكرر أنه لم يكن ولا حركة الصحوة كانت بحاجة إلى تلك التبرئة، فما دام أن توفّر مؤسسات مجتمع مدني، سيقف حائلاً أمام «بروز وظهور حركة الصحوة»، فمن المنطقي والمشروع والمبرر لها، بل لها الحق كل الحق، أن تبذل كل جهد في العمل على استمرار غياب المجتمع المدني، وإدامة تغييبه. إن أي حركة وأي مدرسة أو مذهب في الدين والسياسة والاجتماع والفن والأيديولوجيا، يتوق لا إلى البروز والظهور وحسب، بل إلى الانتشار والتسيد واكتساح الحركات والمدارس والمذاهب الأخرى. هذا حق مشروع لا مشاحة فيه. ألم أقل لكم إن إجابته، إجابة متخبطة ومتضاربة، وكدت أقول خرقاء. يا لشماتة ألدائه وخصومه الذين يتشامخ ويتعالى عليهم، بحدة ذكائه ونفاذ بصيرته وعمق ثقافته، ويتلذذ في الهزء بهم والسخرية منهم، ويشتد في ازدرائهم وتحقيرهم، فزلته تلك التي ظهر فيها تخبط فكره وتضارب تفكيره، جاءت بسبب انسياقه خلف تعليل معتل غير ذي قيمة. فحركة «الإخوان المسلمون»، أم الحركات الإسلامية في العالم العربي - مثلا - نشأت وظهرت وبرزت ولقيت انتشاراً كبيراً في مصر، وكان المجتمع المصري في أواخر المنتصف الأول من القرن الماضي، قد شهد قيام مجتمع مدني فيه منذ مدة طويلة. وفي ثمانينات القرن الماضي تمكن «الإخوان المسلمون» في مصر من توسيع قاعدتهم في أوساط الطبقات المتعلمة وتحقيق الغلبة على التيارات السياسية الأخرى، من خلال الانبثاث والانتشار في تنظيمات المجتمع المدني. إن الحركة الإسلامية استطاعت أن تظهر وتبرز وتصعد في بلدان عربية، بعضها يتوافر فيه مجتمع مدني قوي، وبعضها المجتمع المدني فيها ضعيف، وبعضها لا يوجد فيه مجتمع مدني. مما يعني أن غياب مؤسسات المجتمع المدني - بوصفه تعليلاً - قد زج به في تفسير ظاهرة شاملة في بلدان عربية، أوضاعها السياسية والقانونية والتنظيمية والثقافية والأيديولوجية مختلفة ومتباينة، وشواهده - سواء أكانت بنية المجتمع المدني فيها قوية أم ضعيفة - تقول بعكس ما جاء في التعليل. في معرض استعراضه لسلبيات فكر الصحوة قال لمعد ومقدم برنامجه، برنامج (صحوة) في تلك الحلقة: «لو تأملت في الأدبيات الإسلامية ستجد فيها منطقاً ثأرياً. أعتقد أن أول من تنبه إلى وجود هذا المنطق فيها هو العلامة أبو الحسن الندوي. وعلى فكرة هو محسوب من رموز الصحويين، وهذا ظلم له. الرجل كان يقف موقفاً حاداً وواضحاً ضد التفسير السياسي للإسلام. ما رأيك؟!». ويشهد الله، أن علامات الهم وأمارات الأسف كانت تبدو على محياه هو يتم كلامه الذي قال فيه: «الندوي يصدّر للناس على أنه من مفكري الصحوة الكبار- رحمة الله عليه - وهو علامة كبير. أبو الحسن له كتيب مشهور جداً، يرد فيه على اثنين، على سيد قطب - رحمه الله- وعلى أبي الأعلى المودودي في التفسير السياسي للإسلام. الندوي تنبه إلى هذه الفكرة». قوله السابق الذي بدأه بدعوة إلى التأمل!- يا لرداءة تأمله ويا لزيفه - على قصر الكلام فيه حفل بالأغلاط، وسأبينها للمعجبين المفتونين بنبوغه العلمي وتوثب عقله الفلسفي، وبمعلوماته التي لا تجارى ولا تُبارى، سأبينها واحدة واحدة، حسب تواليها في كلامه. لم يأخذ أبو الحسن الندوي أو يعب على الأدبيات الاسلامية المعاصرة، ذات التوجه الحزبي، في أي كتاب ورسالة ومحاضرة له، وجود منطق ثأري فيها. كتاب الندوي الذي ذكره لا يوجد البتّة فيه شيء مما ادعاه وافتراه. وهذا ما يجعلني أعتقد أنه قد سمع به لكنه لم يقرأه أو إذا غلّبنا حسن الظن، إما أنه قد سبق له أن قرأه تصفحاً ولم يستوعب ما جاء فيه، وإما أنه قرأه ونسي مضمونه، وعلق في ذاكرته عنوانه الرئيس وعنوانه الفرعي. وبخلاف ما قال، فكتاب الندوي ليس مشهوراً جداً، فهو بالكاد معروف عند الإسلاميين؛ لأنهم لم يرتاحوا لا إلى عنوانه ولا إلى مضمونه، ولهذا لم يذيعوه، حتى يصبح مشهوراً جداً. لقد قال - وهو يعرّف بالكتاب - إنه رد فيه على اثنين، رد على سيد قطب ورد على أبي الأعلى المودودي. عنوان الكتاب الرئيس هو - كما ذكر -: التفسير السياسي للإسلام. وعنوانه الفرعي هو: في مرآة كتابات الأستاذ أبي الأعلى المودودي والشهيد سيد قطب. وكما تلحظون أنه أوهم سامع كلامه أن رد مؤلفه عليهما كان رداً متكافئاً من حيث الحجم والمساحة في الكتاب. وبحسب نص العنوان الفرعي الذي أوردته، فإن اسم المودودي يتقدم على اسم سيد قطب، وليس العكس، كما فعل هو في تعريفه المكذوب بالكتاب. يفاجأ من قرأ الكتاب بأنه مكرس لمناقشة تفسير أبي الأعلى المودودي السياسي للإسلام، أما مناقشته لذلك التفسير عند سيد قطب التي جاءت تحت عنوان (التصريحات المماثلة لدى سيد قطب) فهي لا تتجاوز الأربع صفحات في كتاب بلغ عدد صفحاته 157 صفحة، فيشعر القارئ بعد قراءة الكتاب أنه قد خدع عندما وضع اسم سيد قطب في معية اسم المودودي في العنوان الشارح. إن ما صنعه أبو الحسن الندوي حينما حشر اسم سيد قطب في ذلك العنوان هو غير سائغ منهجياً؛ لأن مناقشته له كانت عبارة عن حاشية لمناقشته للمودودي. ووجه الغرابة في هذا الصنيع، أنه أتى من داعية ومثقف، لا أحد يختلف على وقاره ورزانته ورصانته. ولأني لا أود هنا أن أكرر ما سبق لي أن كتبته، فإني أحيل القارئ الذي يرغب في التعرف على فكرة الكتاب إلى دراسة لي عنوانها (الإسلام السياسي.. جدل حول التسمية) مضمومة في كتابي (شيء من النقد، شيء من التاريخ)، ففي هذه الدراسة لخصت – إلى حد كبير – فكرته. وفي ما يتعلق بفكرته سأشير إلى جانب لم أشر إليه هناك، وسأشير إليه هنا. وهذا الجانب يقع على الضد من طريقة تعامل عدنان إبراهيم مع الفترة النبوية والصحابة والخلفاء الراشدين والخلفاء الأمويين والعباسيين. وسأكتفي بذكر اسم عنواني البابين اللذين تضمنا هذا الجانب في الكتاب المذكور في سياق مناقشته للمودودي وهما: التصوير القاتم للعالم الإسلامي والتاريخ الإسلامي، والفعل النفسي لأسلوب التفكير السلبي. وأبو الحسن الندوي الذي أخرجه عدنان من نطاق رموز الصحويين بغية - وهذا من ضمن تخبطاته - رفع الظلم عنه! هو ليس من رموز الصحوة وحسب، بل هو من رؤوس الأصولية الإسلامية المتشددة المتطرفة في العالم الإسلامي، وهو أستاذ لجيل من رواد الأصولية الإسلامية في العالم العربي،، بمن فيهم سيد قطب. إلى ماذا استند عدنان إبراهيم في إخراجه أبي الحسن الندوي من رموز الصحويين وفي اعتراضه على تصويره للناس على أنه من مفكري الصحوة؟ استند في هذا الادعاء إلى أمرين هما: أنه علامة كبير وأنه ألف كتاباً اسمه (التفسير السياسي للإسلام) رد فيه على المودودي وسيد قطب. كون امرئ علاّمة أو عالماً أو فقيهاً دينياً، لا يتنافى وكونه إسلامياً حزبياً، وحركة الصحوة، وإن قل فيها عدد علماء الدين والفقهاء والمثقفين المعمقين والمتينين، فإن هذا لا يلغي أن أبا الحسن الندوي أحد هؤلاء القلة، والذي كان يحوز إحدى الصفات التي عددتها. وكون امرئ علاّمة أو عالماً دينياً أو مثقفاً عميقاً متيناً، فإن هذا لا يتنافى وانحباسه في التزمت والتشدد والتطرف والانغلاق. إن هذا المستند الذي لوح به عدنان إبراهيم قائم على افتراض ضمني سطحي، يدحضه تاريخ بعض العلماء والفقهاء والفلاسفة والمفكرين والمثقفين. وتاريخ أبي الحسن الندوي الدعوى الحزبي الذي بدأه منذ يفاعته، ومضون كتبه ورسائله ومحاضراته ورحلاته، تثبت أن ثقافته العميقة ومهاراته في التنظير، كانتا تتساوقان وتضاهيان تزمته وتشدده وتطرفه وانغلاقه، حذو النعل بالنعل. أما المستند الثاني، فكون أبي الحسن الندوي اختلف لاحقاً – وعلى نحو متأخر جداً – وهو في سن الخامسة والستين مع المودودي وسيد قطب في بعض المسائل في كتاب ألفه عام 1978، فإن هذا لا يعني نزعه أو سلخه من فكر الأصولية الإسلامية الذي هو أحد منظريه الكبار، ويجدر أن نذكر هنا أن ما اختلف معهما فيه، اختلف فيه اتجاه داخل حركة الصحوة قبله بسنين عددا. وهذا الاتجاه يصعب إسباغ صفة الانفتاح أو سعة الأفق السياسي والاجتماعي والفكري عليه. كان حرياً بالندوي في ذلك الكتاب - لو كان منصفاً - أن يضع اسمه في العنوان الشارح، بحيث يسبق اسم سيد قطب ويتلو اسم المودودي، فهو أول من فعّل وطبق تفسير المودودي السياسي للإسلام، وهو الذي نقل هذا التفسير إلى سيد قطب وعرفه به، ونقله وعرّف به الإسلاميين العرب وتأثروا به، وصار بعضهم يحاكيه وينسج على منواله. وبالمناسبة، فإن أبا الحسن الندوي انفصل عن الجماعة الإسلامية بباكستان والهند التي يترأسها المودودي في العام نفسه الذي ألف فيه كتابه المذكور. وكان هذا الانفصال مجرد انفصال حزبي شكلي. فلقد ظل الرجل على ما هو عليه إلى أن توفي عام 1999، ولم يغير ولم يبدل شيئاً من أفكاره، المتشددة والمتطرفة. *باحث وكاتب سعودي