الحوار حق مشروع وسمة راقية ونبيلة, حتى وإن علت الأصوات وشابها شيء من الحِدة. لا بأس فهذا يحدث سيّما عندما يكون هناك تدافع على تبديل وجهة البوصلة لتحقيق هدف التغيير. هذا حوار حدث مع أصحاب مشروعين مختلفين وتصور للحياة وتفاصيلها بعيون ورؤى متباينة. ينشأ جدل بين ثنائية المثقف والقبيلة طردياً كلما اتسعت الفجوة ودوائر الحياة ومتغيراتها.. القبيلة بكل اعتزاز وانفه: أنا أقوم على مبادئ وقيم سامية تجعلني وأبنائي أكثر رقي وقوة وأكثر تماسك وفخر. المثقف: حتى نبتعد قليلاً عن لغة تضخيم الأنا والتورم ... من أنت يا قبيلة؟ القبيلة: وهل يُعرّف المعرّف يا جاهل؟ .. سؤالك فيه من العي والتنطع الكثير, وكأني بك تغمز من قناة التجهيل أو التجاهل, ولكن ما ضر الشمس إنكارها تبقى سراجاً وهاجاً يضئ الدنيا وإن أغمضت الخفافيش أعينها. المثقف: لا حول ولا قوة إلا بالله .. أولاً أنا انتمي إلى قبيلة ولم اسقط جرماً من السماء, فكيف لي أن أقلل من كبريائها المصون؟ .. فقط أنا أردت هدم صنمية العادات التي تكبل أبنائها, وأعمل خرق في جدارها. القبيلة: إذن كفيتنا مئونة التعريف التي تدعي أنك لا تعرف ما هي القبيلة يا لكع ... والصنم الأجوف هو ما تصنعه أياديكم. المثقف: هلا رقينا بخطابنا بدلاً من هذه اللغة القبلية الجلفة وكأنك شيخ يؤدب عبيده..! القبيلة: سوف أعرّف القارئ من أنتم يا مثقفي الكوفي شوب وبهو الفنادق والاستراحات المغلقة.. أنتم مجاميع ليس لهم في العير ولا في النفير. أنتم تشغلون أنفسكم بمصطلحات ومفردات معلبة, وتحسبون أنكم تحسنون صنعاً. الأفراد يريدون أثراً على الأرض وعمل وجهد وتواصل, ولكن كيف لكم أن تخرجوا للشمس وجلودكم المنعمة اعتادت التكييف المركزي والعطور الفرنسية والكعك الأمريكاني. نحن نتكئ يا هذا على مدماك التاريخ والماضي التراكمي سجلنا .. وأنتم من أنتم؟ .. نبتة نمت في الظل فجأة كما ينبت الفطر كيفما اتفق. أأصارحك.. من الحماقة والإجحاف أن أقبل بأن تكون نداً بين كيان له مكانته, وكائنات عملها لوك الكلمات ورصها وتخريج المصطلحات التي لا يعيها إلا أشباههم من أسراب القطا بل وقد يشق فهمها على بعضهم. المثقف: يا قبيلة قلتِ كل شيء ولم تقولي شيء كما يقال. كل ما سمعته نوع من الهجاء, وهذا القاموس الذي تربيتي عليه وفاقد الشيء في الأخير لا يعطيه. التقليل من شأن من يختلف معكم أمر قد اعتدنا عليه، لندخل إلى الجد بدلاً من المناوشة. فالقبيلة أرى أنها العقبة والعقدة التي تعطل عجلة التطور والإبداع والنهضة، القبيلة تقوم على النسل وليس على الكفاءة. القبيلة تسحق التفرد والتميز وتشيح بوجهها عن أرباب القلم وما يسطرون, لأنها تقوم على ركيزة مهمة في هيكلها وهي شيخ القبيلة الذي لم يتم انتخابه بل تم توريثه, وأعطي القطيع ليسوقه ويهش عليه بعصاه ويكتفي من الشهادات بحسن السيرة والسلوك وقد يشكك في صلاحيتها. أما المثقف لا ينتسب إلى عصبية معينة أو مناطقية ضيقة أو انتماء للماضي واستلاب للأرشيف. المثقف يبذل جهد وينتج فكر لا تحكمه القبيلة, بل ينهج طريقة في التعامل مع المستجدات يقوم على الوعي والتفاعل مع المتغيرات. المثقف مرن لا يحكمه أصحاب المقابر ولا تثقل كاهله تركت الأسلاف.. هو يُقدّر كل من يملك رؤية وتطلع واستشراف للمستقبل, ورهانه بعد الله على المخلص العقل. وبالتالي فالقبيلة تشبه مملكة النمل لا تغيير في نمطيتها, ولا إبداع يطرأ في ذلك, تشبه في آليتها معسكراً له قائد وله نواب وصلاحياته أخذها من أبيه وجده، وقد أفهم هذه الآلية في الماضي, لأن القبيلة كانت تقوم بمقام الإدارة والسلطة التي تضبط الأمن وترسي الاستقرار, وهي تذكر لها تلك الممارسة وتحمد, ولكن بعد قيام دولة انتفى وجودها على ذلك النحو. القبيلة: مهلاً التاريخ لنا ويدعمنا وكذلك الجغرافيا وإن رغمت أنفك، وأنت عارض وطارئ وأشباهك نشأ في ظل هذه المتغيرات, ولعلها إفرازات الفوضى الخلاقة (مفردة من بضاعتكم). القبيلة يا هذا فيها الدكتور, وفيها الشاعر, وأستاذ الجامعة, ومن يتعاطون في الفنون الجميلة والكتابة. لا تزم شفتيك ولا تستغرب, ففيك الاستغراب ادعى واوجب. فأنا لا أتحدث عن الغول والعنقاء, بل أعتقد أن الجميع يعوون ما أقول ويمارسونه واقع حال. القبيلة خرج من رحمها أصحاب رايات مرتكزة ومعلقات كتبت بماء الذهب وخرج من رحمها علماء وقادة. القبيلة مهما حاولنا قياس ما أبدعته وتبدعه لطال بنا المقام, وما كنت أظن بأني سوف أذكر بأمور كنت أحسبها من المسلّمات, ولكنه الخداج الفضائي وثقافة التقليد الذي شوش عليكم وجعلكم تلوون أعناق الحقائق إما عن قصد أو جهل. المثقف: لحظة فأنتِ تهذين.. لم أجد القبيلة أبدعت, إلا في تربية الإبل في الاسكيمو, وفي مسابقة شاعر المليون, ومزايين الإبل, وقطع الطرق منذ زمن الأجداد الصعاليك الذين تأبطوا الشر. عندما لم تستطع قبيلة بحجم الهنود الحمر أن تدرك وتستوعب المستجدات انقرضت, فيما ساد العقل المبدع الوافد من خلف المحيطات بعقليه المثقف والمتنور. عندما عاشت أوروبا في دهاليز الظلام أشعل أركانها المثقفون وأخرجوها من الظلام إلى حيز النور, ومن الاستعباد والانقياد إلى الحرية والإنتاج.. فقامت أوروبا على قدميها منارة بعدما كانت تجثو على ركبتيها ردحاً من الزمن. مثلاً لم تخرج اليابان ولا ألمانيا إلى مصاف الدول المتقدمة اقتصاديا وتكنولوجيا إلا عندما أعلنت النفير, وكفرت بنقاوة وطهارة دماء أجدادهم فأخذوا العلم وجهتهم وقبلتهم, وأحرموا له وحجوا وارتشفوا كالنحل المتعطش من كل بساتين المعارف المبثوثة. وكي أقرّب لكِ يا قبيلة أين تقع القبيلة؟ وأين يقع المثقف؟ .. قارني بين اليمن والصومال وأفغانستان وسكان سيبريا وسكان جبال الانديزا وبين ماليزيا وسنغافورة, ولن أثقل وأقول أمريكا وأوروبا, فهذا يشق عليكِ فهمه, وبالقياس هو بون شاسع.! القبيلة لا تصنع إبداع ولا تستطيع الخروج من جلابيب الآباء.. هي تحسن تكرار نفسها, ولكي تقفي على الحقيقة يا قبيلة شاهدي قنوات القبيلة التي تتناسخ وتجتر أوراق الأرشيف وقات الماضي. هل رأيتِ قبيلة تحتفل بمبدع من أبنائها في الطب أو الهندسة أو الفكر أو النقد أو حتى أبنائها المبتعثين للخارج, مع أنها تحتفل وتنفق الملايين على مزايين الإبل وسباق الخيل والتيوس السورية والشاعر النبطي الذي جل قصائده مديح وتسول. بالمختصر: أنتِ تعيشين على موائد المفكرين والمبدعين, حتى أن أفرادك عندما افتقدوا فحولتهم التي يشنفون بها الأذان لم يحفظ ماء وجوههم بعد الله إلا من أبدعوا كبسولات الليل .. والبيداء تعرفني. القبيلة صوت نشاز يعارض حتى يكون لصاحبه موقع اهتمام، لا قاعدة جماهيرية لكم لأنكم تتحدثون خارج سياق التاريخ والواقع والمعاش.. أنتم في قطيعة مع كل ذلك. القبيلة: القبيلة تعمل على الأرض وتهز مناكبها, وتقوم بالتكافل الاجتماعي والتواصل بين أفرادها, وتقنن الزيجات, وتساعد المحتاجين, وتقدر العمل الجماعي, وتعتز بتاريخها وأصالتها عندما يفتقد الآخرين كل تلك المناقب والأدوات, واعتقد أن القارئ يلامس كل ذلك, بل أجزم إنه يفعل. هل تستطيع أن تذكر لنا منهم قادتكم الذين صنعوا نجوم الظهيرة ونفخوا البوق.! المثقف: جُل المبدعين وإن كان بعضهم قد خرج من رحم القبيلة عندما قدموا أنفسهم أفراد وخرجوا من ثقافة القطيع وارتكنوا إلى عقولهم المبدعة صنعوا الفارق, لأنهم خرجوا من تحت وصاية الملقن. وعلى سبيل المثال إليك النجوم الذين لمعوا في سماء الإبداع وإن تعامت عنهم بعض الأبصار: محمد عابد الجابري, أبو القاسم الشابي، نجيب محفوظ، طه حسين, عباس محمود العقاد، جبران خليل جبران, ميخائيل نعيمة, علي الوردي, محمد الجواهري, عبدالله البردوني, إبراهيم البليهي, عبده خال, سعيد السريحي, عبدالله الغذامي, غازي القصيبي, تركي الحمد, غادة السمان, أحلام مستغانمي... وتطول قافلة البخور. هؤلاء هم نسبي فانتسبي يا قبيلة؟! حسين زيد صحيفة صوت الاخدود