المجلس العسكري الحاكم في مصر والانتخابات: الحياة السياسية المصرية....الفوضى المُنظَمة عسكرياً
من المقرر أن تشهد مصر في شهر نوفمبر / تشرين الثاني المقبل أول انتخابات حرة. ولكن، حتى الآن ليس هناك قانون ينظم العملية الانتخابية، إذ إن الجيش يريد أن يقر قانوناً يأتي بنتيجة في صالحه، كما يرى الصحفي الألماني راينر هيرمان.
منذ سنوات الخمسينات هناك فقرة في القانون المصري تنص على أن نصف مجلس الشعب المصري يجب أن يكون مكوناً من "العمال والفلاحين". هذه الفقرة ستسري أيضاً على أول انتخابات حرة تشهدها مصر، والمقرر إجراؤها في الثامن والعشرين من نوفمبر / تشرين الثاني. خلال العقود الأخيرة كان "الفلاحون" في مجلس العشب المصري يشكلون فئة خاصة، ووفق إرادة المجلس العسكري، الذي يمسك بمقاليد الحكم في مصر منذ إسقاط مبارك، فإن هذه الفئة ستستمر على قيد الحياة دون أي تغيير، تسعون في المئة من هؤلاء "الفلاحين" لم يكونوا سوى ضباط متقاعدين حسبما أعلن عمرو موسى، وزير الخارجية المصري الأسبق والأمين العام للجامعة العربية.
غير أن القانون الجديد الذي ينظم العملية الانتخابية في مصر التي ستجري بعد شهرين لم يصدر بعد. حتى الآن تم تقديم ثلاث مسودات للمجلس العسكري، غير أن المجلس ما زال يطالب بإجراء تعديلات عليها. وكان المجلس قد وجد نفسه مجبراً على سحب مشروعي القانون الأول والثاني تحت ضغط الرأي العام المصري، وليس من المستبعد أن يتم تقديم مسودة جديدة رابعة في الأيام المقبلة.
طموح قيادات الجيش
وتعكس كل مسودة طموح قيادات الجيش المصري إلى ممارسة أكبر تأثير ممكن على تشكيل البرلمان القادم وتعكس كل مسودة طموح قيادات الجيش المصري إلى ممارسة أكبر تأثير ممكن على تشكيل البرلمان القادم. لقد اعتمد المجلس العسكري في المرة الأولى، وبكل بساطة، قانون الانتخابات القديم الذي كان يسري في عهد مبارك، وهو القانون الذي ينص على الانتخاب الفردي (وإنْ كان المرشح يمكنه أن يذكر انتماءه الحزبي أيضاً). وحسب رأي المجلس العسكري فإن هذا القانون يضمن العلاقة المباشرة بين النوّاب ومنتخبيهم.
غير أن هذا القانون لقي معارضة شديدة مِن جانب كل مَن لا يرتدي الزي العسكري، لأن الجميع يعرف أنه يفتح الباب على مصراعيه للتلاعب والتزوير، إذ أن النوّاب المُنتَخبين كانوا في الماضي شخصيات تحظى بالنفوذ والمال في دوائرهم الانتخابية – وهؤلاء كانوا جزءاً أصيلاً من نظام مبارك. منذ ذلك الحين والخلاف يشتد حول النواب الذين يُطلق عليهم "مستقلون" والذين ينتخبون عبر قوائم مستقلة غير حزبية. في المسودة الثانية لقانون الانتخابات كان المجلس العسكري يريد أن يشكل المستقلون نصف عدد نواب مجلس الشعب المصري، أما في المسودة الثالثة فكان من المفترض أن يشكلوا الثلث.
ويعد هؤلاء المستقلون أداة مهمة في يد الجيش: فمن ناحية يريد الجيش عبر المستقلين منع قيام أغلبية واضحة في البرلمان، ولهذا فإن مشروع القانون يتضمن فقرة تقول إن النائب يفقد مقعده في البرلمان تلقائياً إذا تم انتخابه كمستقل ثم انضم لاحقاً إلى الكتلة النيابية لأحد الأحزاب. من ناحية أخرى فإن الجيش يخشى أن تطغى الرؤى الحزبية والبرامج السياسية على العملية السياسية كلها. وأخيراً فإن الجيش بحاجة إلى وسيلة تمكّنه من إرسال أتباعه إلى مجلس الشعب.
الصراع بين العلمانيين والإسلاميين على "المستقلين"
وترفض الأحزاب العلمانية "المرشحين المستقلين" رفضاً مبدئياً، لأنها تتوقع أن تتمكن الشخصيات ذات النفوذ في الحزب الوطني الممنوع من النجاح في دوائرهم الانتخابية، والدخول عبر هذا الباب إلى المسرح السياسي مرة أخرى. غير أن التقسيم المُقترح حالياً ينال إعجاب الإسلاميين؛ فالإخوان المسلمون متأكدون – مستندين في ذلك على تنظيمهم الجيد وشعبيتهم الواسعة – من أنهم سيصبحون عبر الانتخاب بالقائمة أقوى كتلة نيابية، كما أنهم يتوقعون في الوقت نفسه أن تكون لديهم فرص جيدة في أن ينجح عديدون من المنتمين إلى حركتهم في الدخول إلى مجلس العشب كنواب مستقلين.
وفي حين ترى الأحزاب العلمانية أنه لا بد من مراجعة مشروع القانون الحالي – وهو ما سيؤدي إلى اختلاف في نتيجة الانتخابات – فإن الأخوان المسلمين والسلفيين يهددون بمسيرات حاشدة في حالة عدم انعقاد الانتخابات في موعدها المقرر في نوفمبر / تشرين الثاني المقبل.
التعاون غير المعلن بين الجيش والإخوان
في وضع كهذا يتجلى بصورة واضحة للجميع التعاون غير المعلن بين الجيش والإخوان المسلمين. إن لواءات الجيش المصري ينظرون إلى الإسلاميين باعتبارهم شركاء جذابين: فمن ناحية يمكن الهجوم عليهم عبر القضاء لأن حزبهم يمكن منعه في كل لحظة بسبب تجذر أعضائه في حركة الإسلام السياسي؛ ومن ناحية أخرى فإن الإخوان المسلمين يتمتعون بشعبية واسعة، استخدموها من قبل عدة مرات – وهذا شيء انفرد به الإخوان عن بقية الحركات الاجتماعية - لصالح المجلس العسكري وسياسته.
على جانب آخر فإن الإخوان المسلمين – الذين ظلوا فترة طويلة يعانون من الحظر – يستمتعون الآن بارتفاع أسهمهم كشركاء جدد، غير رسميين، لقيادات الجيش. يريد الإخوان أن يثبتوا للواءات الجيش المصري أنهم لم يعودوا يمثلون خطراً على نظام الدولة، أما في البرلمان فعليهم أن يثبتوا أنهم على استعداد لتحمل المسؤولية التشريعية.
"الإخوان المسلمون الذين ظلوا فترة طويلة يعانون من الحظر يستمتعون الآن بارتفاع أسهمهم كشركاء جدد، غير رسميين، لقيادات الجيش" وبغض النظر عن قانون الانتخاب فإن البنية الأساسية للتصويت - الذي من الممكن أن يشارك فيه 44 مليوناً من المصريين – غير موجودة. ولكن ربما – هكذا يتكهن البعض في مصر – يكون غياب الاستقرار جزءاً من مخطط المجلس العسكري. فكلما غطت الفوضى على المعركة الانتخابية وعلى الانتخابات، وكلما كانت القوانين ضبابية غير دقيقة، كانت فرصة المرشحين كبيرة في الطعن القضائي في نتائج الانتخابات – وهو ما سيخلق للجيش فرصة التصحيح اللاحق للنتائج التي قد لا تكون في صالحه.
إن البرلمان المصري هو الذي سيعين أعضاء اللجنة التي ستضع الدستور. ومن المنتظر أن يتم انتخاب رئيس جديد للبلاد في فبراير / شباط المقبل – غير أن آليات الانتخابات الرئاسية يحيط بها الغموض أيضاً. وطالما لم يتم انتخاب برلمان ورئيس للبلاد، يستطيع المجلس العسكري أن يحكم مصر وفق هواه.
الحصيلة المرعبة لحكم المجلس العسكري
أما نتيجة ذلك فهي مرعبة: منذ شهر فبراير / شباط حوكم في قضايا مستعجلة أكثر من 12 ألف ناشط شاب أمام محاكم عسكرية، وتمت إدانتهم في كثير من الأحيان. ولا يمنح القانون العسكري للمتهمين حق الاستئناف أو الطعن في أحكامه. وبعد اجتياح السفارة الإسرائيلية في التاسع من سبتمبر / أيلول فرض المجلس العسكري الأحكام العرفية التي كانت سارية في عهد مبارك. ويمكن استخدام قانون الطوارئ هذا ضد من يقوم بنشر "أخبار غير صحيحة"، وهو ما يؤدي إلى إشاعة جو من الخوف في الصحافة التي لم تعد حرة من جديد.
بإيعاز من المجلس العسكري تقوم الحكومة بإجراءات ضد المنظمات غير الحكومية تحت ذريعة تلقي تمويل خارجي. ولكن قوات الأمن لا تواجه عصابات البلطجية – التي تُعد من بقايا نظام مبارك – رغم أن بعض هؤلاء البلطجية معروفون بالاسم منذ اجتياح السفارة الإسرائيلية في القاهرة. وفي الوقت نفسه أصبح عدد من اللواءات المتقاعدين – وعلى نحو لم تشهد مصر له مثيلاً من قبل – محافظين في مختلف مناطق الجمهورية.
تصفية حسابات بين الجيش ومبارك
ولعمل نوع من التوازن يقوم لواءات الجيش بعرض محاكمة الرئيس المخلوع حسني مبارك على الملأ، وهي المحاكمة التي يتابع وقائعها معظم المصريين برضا كبير. وقد اتضح في الفترة الأخيرة أن الجيش يصفي حساباته مع الرئيس السابق عبر عرض الرجل العجوز على هذا النحو المهين، إذ أن الهوة بين طبقة الضباط والرئيس السابق مبارك كانت على ما يبدو قد تعمقت خلال السنوات الماضية، بعد أن تجاهل الرئيس مصالح الجيش تجاهلاً كبيراً عبر سماحه بنشوء طبقة جديدة من رجال الأعمال الرأسماليين حول ابنه جمال.
"ولعمل نوع من التوازن يقوم لواءات الجيش بعرض محاكمة الرئيس المخلوع حسني مبارك على الملأ، وهي المحاكمة التي يتابع وقائعها معظم المصريين برضا كبير" كما أن مبارك تحدى ضباط الجيش خلال محاولته تنصيب ابنه جمال خليفة له. وهكذا كانت المظاهرات الجماهيرية في فبراير / شباط فرصة سانحة غير متوقعة أمام لواءات الجيش المصري للتخلص من كافة أفراد عائلة مبارك، والمحاكمة العلنية للمستفيدين من فساد النظام، واستعادة سلطتهم المفقودة.
غير أن هذه العملية لا تخلو من مخاطر بالنسبة للجيش. طوال شهور كان رئيس المجلس العسكري الحاكم، وزير الدفاع حسين طنطاوي، يعلن ببراءة تامة أنه لم يكن يعلم شيئاً عن صدور أمر من مبارك بإطلاق النار على المتظاهرين. غير أنه عاد وقال في جلسة غير علنية أمام المحكمة إنه رفض تنفيذ الأمر بإطلاق النيران. لم يعد المصريون الآن – الذين يرون المقاطع الموجودة على "يوتيوب" – يصدقون حرفاً مما يقوله طنطاوي. ولهذا لا يستطيع أحد أن يتنبأ بما سيسفر عنه التجاذب بين الجيش وأولئك الذين يريدون رؤية مصر جديدة.